آراء وتحليلات
عين على فرنسا.. ما بين الحراك والثورة
لينه بلاغي
"هذا التوجه الرأسمالي المتوحش، الذي تحدثت عنه الماركسية منذ عقود، بدات اقنعته بالسقوط، ان اليد الخفية التي تعيد توجيه الاقتصاد التي تحدث عنها ادم سميث، يبدو انها لم تعد قادرة نظرا لنتائج العولمة وتراكم الازمات في القرن الماضي والحالي، على التدخل أقله في العقدين القادمين لحل الازمة، وبحيث لم تعد المنظومة الراسمالية قادرة على مواجهة الضغوط المرتقبة، من هنا يترقب المعنيون في الشان الاقتصادي حدوث نوع من الثورات الشعبية لاسباب اقتصادية في دول العالم "المتحضر" والديمقراطي، تكون اشد عنفا من الثورات السياسية.
من هنا لا بد من تجزئة ما يسمى بالعمليات الارهابية، بين ما هو مختص بالعالم العربي الاسلامي، الساعي الى احداث مزيد من الفوضى، وبين ـ ما هو اوروبي، تحديدا بريطاني امريكي الساعي الى عسكرة المجتمعات الغربية بغية ضبطها في المستقبل غير البعيد.
تحت عنوان مواجهة الارهاب سيتم ترهيب الديموقراطيات في العالم الغربي بمعنى ادق سيتم عولمة الديكتاتورية في المجتمعات، فهل ستكون الشعوب قادرة على المواجهة الكبرى؟ ام انها تساق منزوعة الارادة ؟
وهل هذا ما يفسر العمليات الارهابية وما يتبعها من رفع حاله التاهب في هذه البلاد امنيا وعسكريا بحيث اصبح التواجد الكثيف للقوى الامنية والشرطة والجيوش داخل الاحياء والمناطق امرا طبيعيا ؟؟"(*)
من الارجنتين، وعلى هامش اجتماع اكبر تجمع راسمالي في العالم، قمة مجموعة 20 الاخيرة، وهذا مؤشر، وبخطاب مقتضب، وجه الرئيس الفرنسي امانويل ماكرون تهديده بمواجهة ما وصفه باعمال العنف والشغب والتخريب لحركة "السترات الصفراء" المعترضة على "سياسات اقتصادية للحكومة الفرنسية" في باريس مدينة " لنور" نسبة لكونها، مثلت منبر علم ومنارة حضارية وثقافية في العالم خلال القرن الثامن عشر ومركز الثورات الفرنسية بما حملته من مبادئ الهمت العديد من الشعوب حول العالم في التمرد على الظلم والطغيان المفروض من قبل الأنظمة الحاكمة في ذلك الوقت، عابرة مرحلتي النظام الملكي المغلف بالحق الالهي والطبقية البرجوازية وصولا الى الحكم الجمهوري.
ثمانية وتسعون الف شرطي وعربات مدرعة، من المرجح ان يرتفع عددها في القادم من الايام نظرا لاتساع رقعة الاحتجاجات التي بدات تتجاوز "السترات الصفراء" وصولا الى الحركة الطلابية، هي المخولة بالسيطرة على الحراك، الذي يبدو انه سيخرج عن السيطرة، في فرنسا على وجه الخصوص، وشعوب دول الجوار الجغرافي والفكري، والتي من المرجح، واستنادا لتجربة الحراكات والثورات العابرة للحدود التاريخية، واخرها "الربيع العربي" وفي ظل العولمة، انها تنتظر بوارق امل انطلاقا من ملامح الحراك الفرنسي الحالي نتائجه .
لكن هناك سلسلة من الاسئلة التي يجب ان تاخذ بعين الاعتبار عند محاولة تصنيف هذا الحراك، واذا ما كان يدخل تحت عنوان ثورة كما وصفه بعض المراقبين، او حراك مطلبي مؤقت، ياتي في طليعتها السؤال حول ما اذا الحراك يحمل طابع تغير للنظام القائم وانفصام عنه ؟
من الواضح للساعة ان الحراك يحمل مطالبات بتغيرات في بعض السياسات الاقتصادية المعتمدة، والتي يتحمل تبعاتها الرئيس الفرنسي ماكرون وحكومته، لكن هذه المطالبات وعلى الرغم من قوتها بالمقارنة مع مطالبات لشرائح فرنسية سابقة، الا انها لم تخرج عن سياقها الطبيعي في هذا الاطار، الا وهو العمل ضمن منظومة النظام الفرنسي السياسي لا خارجها، وبالتالي فان سقف الحراك قد يقف عند اسقاط رئيس وعلى امل اسقاط بعض السياسات الاقتصادية وليس النظام، وهذا على عكس ما اتصفت به الثورات الاساسية على مر التاريخ، انطلاقا من الثورة الانجليزية 1688 التي جاءت بعد حرب اهلية اسفرت عن تغير لمجمل النظام من حكم مطلق الهي الى ارستقراطي تمهيدا لديمقراطي، او ما اطلق عليه الثورة الامريكية عام 1783، وكان عبارة عن ثورة للتحرر، من قبل طبقة برجوازية وطنية، من حكم خارجي مقتربة من اسس نظام ديمقراطي، او الثورة الفرنسية عام 1789 التي وقعت على مرحلتين لتتخلص من الحكم المطلق مرورا بالاقطاعية والبرجوازية وصولا الى نظام جمهوري، ولم يشذ عن قاعدة صراع الطبقات ابان انحراف مركز القوة من الانظمة الملكية المطلقة ذات الصبغات القدسية، لصالح طبقات قريبة او على تماس مع حكم الشعب، الثورة الروسية او الصينية او اي من الثورات التي وقعت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وصولا الى الثورة في ايران وبعدها العالم العربي، اذا لا يزال من المبكر الحديث عن انفصام مطلق بين الحكم او النظام الفرنسي والحراك، رغم الاعتقاد بانه ليس ببعيد.
هذا الاعتقاد بقرب مسافة الانفصام بين النظام والشعب، ليس في المجتمع الفرنسي وحسب وانما كما سبق الاشارة اليه، سيطال المجتمعات المتصلة جغرافيا وفكريا، في المدى المنظور، اذا ما كتب لهذا الحراك الاستمرارية، وعدم وقوع تحولات من شانها ان تدفع نحو الانكفاء، كوقوع عمل "ارهابي" مفتعل من شانه ان يضع المواطن الفرنسي امام مخاطر التفلت الامني، او استقالة مستبعدة حاليا للرئيس .. اذا استمرارية الحراك يعتبر احد مؤشرات الانفصام واحد العوامل الاساسية في تحديد معالم كونها ثورة او حراكا، ذلك انه يضع بمرور الوقت ليس فقط الرئيس والحكومة في مواجهة ازمة مشروعية، وهي مسالة غاية في الحساسية في المجتمعات " الديمقراطية " وانما قد يضع كل النظام امام ازمة مشروعية تمهد عمليا لثورات كبرى يتعزز فيها دور الفاعليات المثقفة المستبعدة .
احد ركائز الثورات، هو وجود قيادة، وهذا الامر الذي لم يتضح بعد للعلن، رغم وجود مؤشرات تدلل على ان من يقوم بتمهيد ارضية الانتفاض الفكري على الواقع الاقتصادي والسياسي، من المرجح ان تكون تلك الطبقة من المثقفين التي استبعدت عن الجهاز السياسي والاعلامي نسبيا، نظرا لقدرتها على النقد وعدم انصياعها الكامل لمخرجات هذا النظام من سياسات تشرح وتدلل على تحول النظام الى ديكتاتوريات محلية، وان لم يكن منظما، وهو الامر الذي لا يقتصر على اوروبا وحدها وانما هناك حراك فاعل في الولايات المتحدة ايضا ومنذ عدة سنوات يدلل على وجود حراك ما " تحت الطاولة " قد تتضافر الجهود والظروف الاقتصادية والسياسية لاخراجه الى العلن في لحظة تاريخية ما، رغم تمكن ترامب من تاخيره بفضل سياسات " خلق الاعداء " لتسويق اسلحة وحروب، واستدراج اموال ورشوة الشعب والاعلام .
في المقابل، لقد خرجت العديد من التحليلات التي تشكك بالحراك معتبرة انه جاء كرد من الولايات المتحدة على تصريحات لماكرون حول انشاء جيش موحد اوروبي، وانه محاولة فرنسية لقيادة اوروبا بعد الخروج البريطاني من الاتحاد، وهذا امر بحاجة للكثير من الاثبات والدلائل حول " الكيف " التي يريد بها ماكرون قيادة اوروبا الهرمة، والتي تمر حاليا بمخاضات شبيهة بمخاضات العقود والسنوات الاخيرة من عمر التشظي للامبراطورية العثمانية، متحولة الى ساحة صراع للقوى الراسمالية اليهودية الامريكية ومساحة مفتوحة بتعقيداتها الداخلية امام التدحرج الروسي، ومرمحا لخيل الاقتصاد الصيني، والمعرضة للتشظى الى دول قد يجمع بين بعضها تحالفات في افضل احوالها، وتستمد قوتها من منظومة قوى خارجية، يحددها شكل النظام الدولي المرتقب ولاعبيه الناجون من ازمة التآكل الدولي .
من الواضح ان تضافر العولمة والراسمالية ونتائجها المرحلية التي اسفرت عن ما عرف " بالشعبوية " دفعت برؤساء ثلاثة دول كبرى الى نوع من الاسقاطات المشوهة لشخصيات عرفت في مجتمعاتهم " بالكاريزما القيادية" في محاولة لاستمالة شعوبها عاطفيا، فوجدنا برنامج ترمب الانتخابي مقتبسا من روح خطابات الرئيس الامريكي رونالد ريغان، وتريزا ماي قد تقمصت شخصية مارغرت تاتشر الجدلية، وها هو ماكرون يحاول تمرير سياساته بتبني واحد من شعارات شارل ديغول .
هذه الانتزاعات من الماضي لا يمكنها ان تجيب على الاسئلة والاحتياجات التي يطالب بها المحتجون وهنا ندخل بعامل اخر من عوامل المقارنة بين الثورات والحراك ؟ هل هو حراك بمطلب ثقافي يولي اهمية للانسان والفرد والمجتمع، ويستمد قوته من ذاكرة جماعية ضاربة في عمق تاريخ هذه الثقافة وقيمها الاجتماعية والدينية، ام انه استجابة لذاكرة حاضرة قصيرة تتفاعل مع منظومة قيمية اقتصادية لا تبتغي سوى حقوق مالية ورفاه وبالتالي اعادة انتاج النظام عينه وانما بوجوه اخرى؟
من الواضح خلال تتبع اراء بعض المتجمهرين في الساحات الباريسية والتي تناقلتها بعض وسائل الاعلام، تشير الى ان جل المطالب الواضحة والمحددة لهم يمكن اختصارها بمطالب اقتصادية، وكون الطبقات المجتمعية العادية لم تعد قادرة على تامين وسائل الرفاهية التي تمتعت بها يوما، لكن اللافت ايضا فيما نقل ان من قام باعمال " الشغب " وجه غضبه الى المتاجر والفنادق الكبرى، وهي رموز راسمالية من وجهة النظر الشعبية، وهو مؤشر على رفض للجانب الاقتصادي في النظام الليبرالي وليس السياسي الاجتماعي منه لكنه، وكما يصفه البعض ممن درس اسباب الثورات في المجتمعات، مؤشر لاحتمال " حدوث الثورة وانه، يزداد في حالة اذا ما اعقبت فترة طويلة اقتصادية واجتماعية مرحلة سريعة من الركود والجمود القصيرة " (انظر: ملكوتيان، مصطفى، ظاهرة الثورات، بيروت، دار كيتوس للثقافة والنشر، 2016،ص 89 - 90 ) المرادفة للمفهوم الاسلامي "احذر صولتان صولة الفقير اذا شبع والغني اذا جاع" وكلا الصولتان، لهما مصاديقها في النظريات ذات الرؤى النفسية المتعلقة باسباب الثورات (م.ن،ص 88) وعند مرحلة " فقدان القدرة من قبل الشعوب على التكيف مع الظروف الحياتية وشؤونها "تحدث الثورات " وفي مثل هذه الحالة تزيدها التدخلات الاجنبية تعقيدا وسوءا"، والحال هذه يمكن الاشارة الى انه في حال تمكنت الحكومة الفرنسية من قمع الثورات بطرقها الامنية والعسكرية او الناعمة، عندها سيبقى الحراك حراكا مقطعا،وان علا صوته، مؤقتا على غرار احتجاجات سياتل في مواجهة منظمة التجارة العالمية 1999 واثارها السلبية على الشعوب والبيئة، والا فانه من المرشح ان ينقلب الى ثورة تدفع اوروبا الى الفوضى، التي بدورها تدفع اما الى مزيد من التدهور في حال ممانعة المنظومة الراسمالية (المتوقعه والطبيعية) لتغيرات تطال ثرواتها واحتكاراتها وامتيازاتها، او الى، والتعبير لمارغريت تاتشر "فوضى يولد من رحمها نظام" تمهد لنظام جديد يدمج ما بين الاشتراكية والديمقراطية لمعالجة ازمة الشعوب المتلهفة للعدالة في توزيع ثرواتها ـ ودفع ضرائبها، وهذه فكرة يتم التمهيد لها والعمل عليها جزئيا، في عدد من الدول الاوربية، وامريكا، وهذه مبحث اخر .
عوائق في وجه التحول من حراك الى ثورة حاليا؟
هذا الحراك الذي امتد لاسابيع، وارتفع سقف مطالبه، ملمحا الى امكانية حدوث ثورة، بغض النظر عن اي موقف،ومن امكانية كونها مؤامرة على فرنسا ورئيسها، او كونها مؤشرا واقعيا على المتغيرات التي طالت المجتمعات الغربية،هي في معرض المواجهة التالية:
1ـ الة عسكرية قد تتخطى مظاهرة المدرعات والجنود والاعتقالات التي حصلت السبت الماضي، الى ممارسة مزيد من العنف للسيطرة على التظاهرات من خلال الترهيب تحت ذريعة الامن، سيما اذا ما اخذنا بعين الاعتبار انه وفقا لبعض النظريات في الثورة فان عامل الضعف العسكري امام مواجهة الحراكات قد يشجع على الثورة .
2ـ مواجهة الالة الاعلامية التي تعاطت بدهاء مع هذا الحراك، من خلال التركيز على الاعمال التي قد تدفع البعض من الداخل الفرنسي والخارج الى السلبية في التعاطي مع هذا الحراك، او الى الوقوف جانبا كحالة المعارضة الفرنسية دون السير في مساندة هذا الحراك،او التمهيد لقمع المحتجين، او من خلال التعتيم على الحراكات الداعمة في المدن والارياف الفرنسية .
3ـ فقدان التوجيه اللازم للحراك ولاسيما بعد الاعتقالات التي من المرجح انها طالت شرائح واسعة من الفاعليات النشطة فيه .
4ـ المقومات الاقتصادية للنظام القادرة على تقسيم وتفتيت الحراك، اذ لا بد من عدم اغفال ان المطالب اقتصادية .
الرئيس الامريكي دونالد ترمب هو وجه من وجوه "عولمة الدكتاتورية " لا يقل عنه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي لم يسطع نجمه الا بعد التخرج من منظومة بنوك "روتشيلد اند سي" بفرعها الفرنسي،الى جانبهما تيريزا ماي التي كانت قد صرحت العام الماضي انها "على استعداد لتغيير قوانين حقوق الانسان، في سبيل مواجهة الارهاب"، واثارت موجة من الانتقادات، لم تستطع ازاحتها عن سدة السير ببريطانيا بعيدا عن مجمل المشتركات القيمية التي تقاسمتها يوما مع المجموعة الاوربية .
في مرحلة الثلاثي ترامب ـ ماكرون ـ ماي، يبدو ان شعلة "الديمقراطية" بدأت تخبو، فواقع الديمقراطيات الغربية، فصله تشالمرز جونسون (رئيس معهد أبحاث السياسات الياباني، ومؤلف، Blowback، و The Sorrows of Empire، و Nemesis، التي تشكل ثلاثية Blowback) عشية وفاته،" اما ان تكون الامة ديموقراطية او امبريالية، لكنها لا يمكن أن تكون ديموقراطية وامبريالية في الوقت عينه، إذا تمسكت بالإمبريالية، فإنها، مثل الجمهورية الرومانية القديمة، التي اثرت كثيرا بنظامنا، تفقد ديمقراطيتها لصالح ديكتاتورية محلية" .
في النهاية، وان لم تسفر احتجاجات باريس عن ثورة في المرحلة الراهنة، الا انها بالتاكيد تؤسس لنوع من الحنق والنفور الشعبي والفوضى الفكرية التي من شانها في مراحل لاحقة ان تتناغم مع مشاعر مشابهة لشعوب العديد من الدول التي بدأت تستشعر مسالة انعدام العدالة في مجتمعاتها الديمقراطية، فهل ستسبق الشعوب الانظمة في عملية التغيير في ظل عسكرة داخلية، ام ان الحروب المتنقلة والمتسعة الجيو ـ اقتصادية، ستسكت ام المعارك والثورة الحقيقية بين الشعوب والمنظومة الراسمالية القائمة ؟.
(*) من مقالة سابقة للكاتبة في جريدة الصباح العراقية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024