آراء وتحليلات
ماذا سيخرج جعجع من جعبته بعد "عدوان" نهر الكلب؟
ابرهيم صالح
ماذا في جعبة قائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع من خيارات "الفعل الفظيع والمغامرات الجنونية العدوانية" ليشرع في افتعالها في أعقاب "الجريمة المنظمة" التي أقدم عليها عناصر فريقه بحق النازحين السوريين الذين كانوا يعبرون نفق نهر الكلب الفاصل بين قضاءي كسروان والمتن في طريقهم الى سفارة بلادهم في اليرزة للمشاركة في استحقاق انتخابات الرئيس في سوريا، بغية أن يؤدي جعجع دوره التاريخي المعهود، ولكي يثبت لمن يعنيهم الأمر في الداخل والخارج أنه "صاحب الكلمة الفصل واليد العليا" في المناطق ذات الأغلبية السكانية المسيحية، وأن من يدرجهم في خانة الخصوم باتوا ضعافًا لا حول ولا قوة لديهم وهم عاجزون عن الفعل؟
لا بد من الإشارة قبل إعطاء اجابة عن هذا التساؤل المطروح بإلحاح، الى أن هذا الفعل العدواني لـ"القوات" أثار ردود فعل واسعة ومستنكرة، كونه أعاد إلى الأذهان صورًا من مآسي الحرب الأهلية اللبنانية المفترض أنها ولّت إلى غير رجعة، وما سجل خلالها من ممارسات ميليشياوية على الحواجز والمعابر والتي "أبدع" أكثر ما يكون فيها عناصر "القوات" آنذاك لدرجة أنها صارت جزءا من شخصيتهم ودورهم. وكلّما آتي على ذكر هاتيك السنوات العجاف يبادر كثر الى سردية طويلة بأسماء الذين تعمد هذا الفريق تصفيتهم وجلهم من النخب المسيحية المعارضة وسواهم من أبناء الطوائف اللبنانية الأخرى وفي مقدم هذه اللائحة يرد اسم الشهيد الكبير الرئيس رشيد كرامي وداني شمعون، وهي بعض من الجرائم والارتكابات التي قادت جعجع في النصف الثاني من التسعينيات إلى سجن انفرادي في قيادة الجيش بعد جلسات محاكمة استمرت أكثر من عامين وانتهت بحكم مؤبد مبرم ولم يخرج من سجنه إلا بعفو خاص فرضته ظروف الاضطراب والاحتدام التي سادت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
والأكثر إثارة للشبهات والتساؤلات في خضم هذا الفعل العدواني المرتكب جهارًا في نهر الكلب هو محاولات التبرير والتغطية عليه والتي تطوعت لها قوى ومرجعيات فضلًا عن الحملة العنصرية على ما سمي "الوجود السوري".
وبالعموم، لم تكن الردود والتداعيات على هذه الجريمة الموصوفة بقليلة الشأن أو العابرة، فهي تنوعت بين اللجوء إلى القضاء وإصدار بيانات والقيام بتحركات وعراضات في الشارع رافضة لعودة هذا الأسلوب الميليشياوي والنهج الجرائمي. وقد أظهرت كلها أن تمادي فريق "القوات" بهذا الاداء الاستفزازي التوتيري لن يمر من دون "عقاب" واستتباعًا من دون ارتدادات لن تتوقف بالضرورة عند حدود الاعتراض الشكلي.
إذ إن هذه الجهة التي ما لبثت أن أبدت هذا الحجم من الرفض لهذه الممارسات وما يشاكلها، قرأت في عمق المشهد المعد سلفًا عملية استدراج منظمة في لحظة تحولات مفصلية في الإقليم بدءًا من الأراضي الفلسطينية وصولًا الى الساحتين السورية واللبنانية. وبمعنى أكثر وضوحًا سعى جعجع وانفاذًا لأمر عمليات إلى بلوغ الأهداف الآتية:
- التشويش على الانتخابات الرئاسية في سوريا والتي أظهرت حجم التأييد الواسع والمتأصل للرئيس بشار الأسد وتحوله إلى رمز لصمود هذا البلد الذي يواجه ببسالة منذ أكثر من عشر سنوات حربًا كونية عليه. وليس مجهولًا أن جعجع تصدر "زمرة" الذين أبدوا سعادة باندلاع هذه الحرب وحددوا مواعيد ومواقيت لسقوط الرئيس الأسد ونظامه وهي بطبيعة الحال ظلت أوهامًا وأضغاث أحلام.
- افتعل جعجع هذا الفعل العدواني في لحظة كان محور المقاومة يحقق فيها انجازًا كبيرًا في فلسطين المحتلة، أي ميدان المواجهة المركزي مع الأعداء.
- وعلى المستوى الداخلي كان على جعجع أن يبادر إلى هذا الفعل الموصوف في استفزازه لكي يقدم لمن يعنيهم الأمر برهانًا حسيًا على أنه "بطل" الاعتراض في الساحة اللبنانية وأنه القوة القادرة والجاهزة غب الطلب لجبه أعداء محور المقاومة، وهي المهمة القذرة التي تصدى لها أكثر ما يكون منذ انطلاق الحراك في الشارع في خريف عام 2019.
وليس خافيًا أيضًا أن على جعجع أن يجد يوميًا براهين تظهر أن خصمه اللدود بما يمثل بات في حال تراجع وانحسار وأنه يستطيع القبض على زمام الأوضاع في الساحة المسيحية وإعادتها إلى "كنف" الأجواء التي كانت عليها ابان سني الحرب الأهلية خصوصًا أن أصداء الشعار الذي رفعه "القواتيون" في الفترة الأخيرة هو "ما بيحمي المنطقة الشرقية إلا القوات اللبنانية".
ومما يجدر الالتفات إليه أن جعجع يتصرف على أساس أن ثمة من يتفاعل ويتناغم معه سياسيًا في الساحة المسيحية لا سيما من خلال رفع شعارات الدعوة إلى الحياد والمؤتمر الدولي وسواها من شعارات سبق أن تناهت إلى مسامع اللبنانيين في مناسبات ومحطات سابقة كانت الفوضى والاضطراب هي السائدة خلالها. وهي كلها تنظيرات وممارسات يراد منها في العمق "شطب" المعادلات والتحولات التي دخلت في قاموس السياسة اللبنانية بعد عام 1982.
ومن الطبيعي الإشارة أيضًا إلى أن ثمة هدفا آخر مضمرا أوكل إلى جعجع أمر تنفيذه وهو فرض أمر واقع مفتوح على مزيد من عناصر الفوضى والاحتدام في الساحة اللبنانية وجوهره العمل على تبديد أي جهد حقيقي ومخلص يرمي إلى ملء الفراغ الحاصل واستيلاد الحكومة الجديدة المنتظرة والتي من شأنها فتح الأبواب الموصدة أمام إنقاذ البلاد من أزماتها المتناسلة وحرف ورشة النقاش الدائرة في الآونة الأخيرة لتأليف هذه الحكومة المنشودة، باتجاه آخر خصوصًا أن جعجع يعتبر نفسه مستفيدًا أكثر من تعميق الأزمات، فهو كما هو معلوم ينتسب بجدارة إلى مرحلة الحرب الأهلية، ولم يستطع رغم كل الفرص التي أتيحت، أن يدخل تغييرًا على مسيرته تجعله منخرطًا في اللعبة السياسية الديمقراطية.
وعليه، يبقى السؤال المطروح أي فعل "عدواني استفزازي" يحضّر جعجع لإخراجه من "جرابه العتيق المألوف" لأنه الى الآن ورغم مرور أكثر من 15 عامًا على خروجه من سجن ذنوبه وأفعاله وارتكاباته لم يستطع أن يتحول إلى رجل مبادرات سياسية من شأنها المساهمة في ترسيخ الاستقرار، ولكن الثابت دوما في قوانين السياسة والفيزياء على حد سواء أنه دوما لكل فعل ردة فعل مساوية في المقدار ولكن معاكسة في الاتجاه.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024