آراء وتحليلات
سد النهضة ومصير خيار "كامب ديفيد"
إيهاب شوقي
قد لا تكون السدود متعلقة فقط بالمياه وإنما تكون بمثابة سدود لطرق وخيارات وتوجهات عقيمة، وهو ما يمكن أن يشكل جانبًا ايجابيًا لسد النهضة الإثيوبي رغم مخاطره الوجودية على مصر.
هامش الوقت يضيق لدى مصر لإنفاذ الخيار الوحيد المتبقي والناجع وهو الخيار العسكري، والمرتبط بنطاق زمني ضئيل مشروط بسبق الملء الثاني لخزان سد النهضة، حيث يكون هذا الخيار بعد الملء انتحارًا ونيرانًا صديقة موجهة ضد السودان ومصر ذاتها!
والمشكلة الرئيسية لسد النهضة هي في واقع الأمر مشكلتان، إحداهما معلنة والأخرى وهي الأخطر، مسكوت عنها.
المشكلة الظاهرة هي أن مصر تخشى بشكل كبير من تراجع حصتها من مياه النيل على ضوء ضخامة المياه اللازمة لتعبئة البحيرة الصناعية المتشكلة بمساحة 246 كيلومترًا مربعًا وتتسع لأكثر من 74 مليار متر مكعب. وكما قال الدكتور محمد نصر الدين علام وزير الري الأسبق، إن شروع إثيوبيا في الملء الثاني لسد النهضة دون اتفاق يستنفد المخزون المائي بالسد العالي.
وتجمع الدراسات أنه أثناء الملء الأولي لسد النهضة، سينخفض خزان السد العالي بأسوان، وبعد الملء وتشغيل السد سيفيد سد النهضة إثيوبيا والسودان دون التأثير بشكل كبير على مستخدمي المياه في مصر طالما أن تدفق المياه في نهر النيل لا يزال مشابهًا لمتوسطه التاريخي.
والخطورة الحقيقية تكمن في سنوات الجفاف، وهي كارثة حتمية لأن الباحثين يعتبرون أن الجفاف متعدد السنوات في المستقبل حتمي ويأتي بشكل دوري ولسنوات عديدة متتالية، وهو ما يعني جفاف مجرى النيل في مصر.
المشكلة الباطنة والمسكوت عنها، وهي الأكثر خطورة، هي امتلاك مفاتيح تعطيش مصر أو إغراقها وابتزازها والسيطرة عليها عن بعد ودون مواجهات، حيث تستطيع إثيوبيا ومن وراء إثيوبيا وفي حالة عدم وجود اتفاقات ملزمة، غلق صنبور المياه عن مصر تحت أي دعاوى فنية، وكذلك تدمير السد وإغراق السودان ومصر حتى دون إعلان حرب.
وبالتالي فإتمام عملية ملء السد دون اتفاق ملزم هي عملية اقتناص للإرادة المصرية بصرف النظر عن أي نظام حاكم لها وطبيعة علاقته بالغرب وبالعدو الصهيوني، وهو قطع للطريق على أي نهضة أو مقاومة بمصر وإعلان رسمي لقتل دور مصر في المنطقة وفي العالم.
لقد تم تحديد موقع سد النهضة عندما أجرى مكتب الاستصلاح الأمريكي مسحًا لنهر النيل الأزرق بين عامي 1956 و 1964.
وهو تزامن مع معركة مصر الكبرى لامتلاك إرادتها بتأميم قناة السويس ردًا على قطع تمويل مشروع السد العالي، وبالتالي تم التخطيط للالتفاف على مشروع مصر بكسر إرادتها من المنبع، وهو ما يؤكد الهدف من وراء السد.
وتم إجراء مسحين للموقع في أكتوبر 2009 وبين يوليو وأغسطس 2010 ، مع تقديم التصميم في نوفمبر 2010. وهو ما يعني أن التنفيذ الفعلي حدث في أواخر حكم مبارك واهتراء الدولة وتسليمها للصبية وتفرغها للتوريث، وتزامن مع وصول علاقات مصر الإفريقية لأدنى مستوياتها بعد تراكمات من الأخطاء بل والخطايا الكبرى وترك القارة ساحة للعبث الصهيوني.
الخيارات المتاحة لمصر
التزمت مصر بخيار سلمي تفاوضي دون امتلاك أدوات ضغط أو تشكيل تحالفات حقيقية يمكن أن تضغط على إثيوبيا ومن وراءها. واعتمدت مصر على علاقتها بأمريكا وهو وهم كبير ثبتت عبثيته. كما اعتمدت على تحالفات مع الخليج رغم تمويله لسد النهضة ووجود استثمارات سعودية وإماراتية كبيرة، ناهيك عن الخطاب الخليجي الباهت والأقرب للحياد!
ويبدو أن مصر وفقًا لتوجهاتها الغربية والخليجية باتت منفردة في مواجهة أعظم خطر وجودي لمصر بالتاريخ وهو ما يتطلب انقلابًا تامًا على التوجهات والخيارات الراهنة.
حتى روسيا والتي لجأت لها مصر كمحطة أخيرة بعد ما بدا أنه ضمانة مصرية لنجاح علاقتها بأمريكا في الخلاص من هذا الكابوس، لم تقدم خطابًا شافيًا لمصر، بل جاء خطابها مشابهًا للخطاب الخليجي المحايد شكلًا، بينما كان المضمون أخطر، حيث أعلنت أنها مع الحل الأفريقي، وهو ما يعني قطع الطريق على آخر حل دبلوماسي مصري بالتقدم لمجلس الأمن تحت الفصل السابع.
وبالتالي فإن الخيارات الدبلوماسية انتهت ومعها الوساطات الدولية ولم يتبق سوى الخيار العسكري!
وقبل الخوض في حسابات الخيار العسكري، لا بد من توضيح درس صغير في التحالفات، وهو خطأ التصور المصري للتحالف، فقد تصورت أن الطاعة لأمريكا والخليج تشكل تحالفا، وتصورت أن مجرد شراء السلاح من الروس هو تحالف، بينما التحالفات الحقيقية تنبع من قوتك كحليف وما تستطيع أن تقدمه لحلفائك من أوراق قوة حقيقية تساعد على تحقيق الهدف السياسي والاستراتيجي للحلف.
وعندما تفرط مصر في أوراق قوتها وسيطرتها على المضائق التي تهدد الصهاينة وتخليها عن ثوابت المقاومة للمشروع الصهيو - أمريكي، فما الذي تستطيع تقديمه للروس أو لغيرهم مقابل مشاركتهم معركتها؟!
في الخيار العسكري، فإن الخطط والمعلومات العسكرية تبقى حصرًا بيد القوات المسلحة المصرية والتي لا نشك في امتلاكها للقدرة وأن الأمر يتوقف على القرار السياسي.
تنوعت التقارير الغربية في عرض السيناريوهات العسكرية بين استخدام قنابل معطلة ومتأخرة التأثير يتم نشرها من ارتفاعات منخفضة للغاية، أو حتى ذخائر هجوم مباشر مشترك ذات تأثير متأخر يتم نشرها على ارتفاع متوسط، أو إدخال قوات العمليات الخاصة في السودان.
وقالت السيناريوهات بضرورة الاستعانة بمطار في السودان في حالة استخدام ضربات جوية، وإلا فقد تصل الطائرات المصرية إلى إثيوبيا من مصر بخزانات وقود ممتدة مثبتة على طائرات مقاتلة.
وقالت تقارير أخرى إن صواريخ سكود- بي المصرية البالستية قادرة على الوصول إلى الأراضي الإثيوبية، كما تظهر التجربة الكورية الشمالية، ويمكن تعديل الغواصات الهجومية المصرية القديمة التي تعمل بالديزل والكهرباء من فئة روميو لتحمل صواريخ باليستية. هذه خيارات منشورة وتبقى هناك خيارات عسكرية أخرى في جعبة الجيش المصري.
ما نود قوله هنا باختصار هو ما يلي:
لا بد من تغيير اللهجة الدبلوماسية المصرية مع من اعتبرتهم مصر (حلفاء) ومع إثيوبيا والقوى الكبرى.
ومهما كانت السيناريوهات المتوقعة لردة الفعل فهي قابلة للمعالجة بينما ملء السد في يوليو واستحالة الخيار العسكري بعده وبالتالي امتلاك إرادة مصر وشريان حياتها بشكل نهائي هو ما لا يمكن معالجته.
والأهم هو أنه قبل إنفاذ الخيار لا بد من إعادة ترتيب التحالفات وامتلاك أوراق ضغط وعودة للدور الطبيعي لمصر بممارسات مستقلة عن الخليج ومهددة للمصالح الصهيونية والأمريكية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024