آراء وتحليلات
الشراء العام في لبنان: بين الواقع والتمني
هاني ابراهيم
الفساد هو أحد أكثر الآفات الإجتماعية انتشارًا في البلدان لا سيما النامية منها أو ما يعرف بدول العالم الثالث والتي تعمل بطريقة أو بأخرى على التأثير المباشر في البيئة والحياة الإجتماعية بشكل سلبي ما ينعكس أداءً متقلبًا وانتاجًا متراجعًا في المجالات كافة لا سيما تلك المتعلقة بالخدمات العامة والمرتبطة بحاجات الناس اليومية والعملية.
وقد ترجمت هذه الآفة على مدار عقود على شكل رشوة، وواسطة وتوظيف الأقارب والمحسوبيات ـ المتمثلة في إرساء العقود على الأصحاب والمؤيدين ـ وإساءة استخدام المعلومات في عمليات بيع وشراء الأسهم.
لذلك عندما يقاس مستوى تفشي الفساد في بلد ما فإن ذلك يكون وفق معايير ومرتكزات محددة، من أهمها القوانين المتعلقة بحماية المرافق العامة من توغل الفساد وخاصة عندما تكون مقاربتنا مرتبطة بالخدمات المقدمة من الإدارات العامة والمؤسسات. ولكن هل ذلك وحده يكفي؟ الجواب المباشر: لا.
هناك معيار آخر ضروري ولا يقل أهمية عن الأول، يتمثّل بسنّ التشريعات الضرورية لضمان معايير الشفافية وخاصة بالأمور المتعلقة بالصفقات العامة ولوازم الشراء في الدولة، وهو معيار أساسي يضع لبنان عمليًا في مراتب متقدمة في حال إنجازه وتطبيقه وفق معايير الدولة والعكس صحيح.
مع التطور الحاصل في شتى المجالات، باتت حياة الناس متعلقة بالشراء العام كونه يساهم في تعزيز النمو الإقتصادي، وتأمين الإستثمارات والعدالة الإجتماعية. وتتجلى علاقة التنمية بالصفقات العمومية من خلال مجموع المشاريع التي تنفذ في نطاق الدولة أو في نطاق البلديات بالاضافة الى كونه يمثل أداة أساسية لتنفيذ السياسات العامة المالية، وبرنامجها الإصلاحي، وإحدى أدوات ترشيد الإنفاق العام من خلال نظام عقود الصفقات العمومية لتلبية احتياجات مختلف المرافق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية.
فأين إذًا يكمن النقص التشريعي في القانون الحالي للشراء العام؟ وهل من الممكن تعديله بما يجعل منه قانونًا نموذجيًا يتناسب ولبنان الذي نعرفه ونعيش فيه؟ ذهب البعض الى القول إن العيب المباشر في آلية الشراء العام في لبنان هو غياب القانون الموحد الناظم لعمليات الشراء العام، لكن ماذا يعني ذلك؟
إن كلّ جهة مخوّلة بالقيام بمهمة الشراء العام تكون أمام مجموعة من القوانين والمراسيم المتعددة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر قانون المحاسبة العمومية المرسوم 14969 الصادر عام 1963 وأيضًا نظام المناقصات المرسوم 2866 الصادر عام 1959.
ويعتبر قانون المحاسبة العمومية الأساس في موضوع الصفقات العامة، حيث ينحصر تطبيقه بالدولة وبعض البلديات الكبيرة، كما ويحدد الأحكام الخاصة بالمناقصات العامة والمحتويات الأساسية لدفاتر الشروط العامة والخاصة وطريقة تقديم العروض وآلية إسناد الصفقة الى مقدم أدنى الأسعار أو أفضل العروض.
أمّا إدارة المناقصات والتي من المفترض أن تكون الجهة الأساسية فدورها مهمش، رغم أنها المعنية بتنفيذ عمليات الشراء الضرورية المتعلقة باللوازم والأشغال والخدمات لحساب الوزارات، وترعى بدورها البرنامج السنوي للمناقصات وكيفية الإعلان عنها، وتعيين لجان المناقصات وآلية التدقيق في ملف المناقصات وصلاحياتها وكيفية تقديم العروض وفضها وترسية الصفقة، إضافة الى الأحكام الخاصة بالمناقصات المحصورة واستدراج العروض. كل ذلك دون اغفال العديد من المراسيم الخاصة والمتعلقة بالصفقات العمومية كالمرسوم 1966 أو ما يسمى بتصنيف المتعهدين (متعهدي صفقات، مبانٍ عامة، مشاريع مائية، مشاريع كهربائية، صفقات حفر آبار ومياه جوفية) ومرسوم الإقصاء عن الاشتراك في تنفيذ الصفقات للعام 1967 والمرسوم 14601/ 1970 والمرسوم 10515/2003.
فلنحدد إذًا أين يكمن الفساد في الشراء العام؟ ولنعمل على معالجة هذه الثغرات على المستوى التشريعي والإدراي والأهم التطبيقي.
تذهب الإدارات العامة في معظمها الى خيار العقد بالتراضي بدلًا عن إجراء المناقصات، ما جعل الشراء العام في لبنان يتصف بصيغة التراضي والوفاق أكثر منه بالمنافسة والمناقصة ما يجعل من المنافسة كمعيار للشفافية في خبر كان، ويفتح الباب أمام الرشاوى والفساد والمحسوبيات، وخاصة أن موضوع التراضي أو التجزئة الحاصلة من شأنه إخفاء المعلومات المتعلقة بالعقود كما ويحد من دور الرقابة عليها.
إن عقد النفقات يتم بموجب عدة فواتير وبقيمة إفرادية أقل من تلك المحددة بموجب الفقرة الأولى من المادة 151 من قانون المحاسبة العمومية، وبقيمة إجمالية تتخطى القيمة المسموح بعقدها بموجب بيان أو فاتورة وأحيانًا تتخطى القيمة بالشكل الذي يلزم فيه القانون عرض ذلك على الرقابة المسبقة لديوان المحاسبة استنادًا للمادة 35 من قانون تنظيم الديوان، وخاصة أن الفواتير تعود لذات الدائن! وليس هذا فقط بل ولذات نوع النفقة وفي التاريخ نفسه، ماذا يعني ذلك؟
يعني ذلك أن مجموع الفواتير يمثل التزامًا واحدًا كان من الواجب إخضاعه للرقابة المسبقة لكل من مراقب عقد النفقات بناء على المواد 61 و 65 و66 قانون المحاسبة العمومية وللرقابة المسبقة لديوان المحاسبة بناء للمادة 35 من قانون تنظيمه، كما أن في ذلك مخالفة واضحة لنص المادة 123 من قانون المحاسبة العمومية والتي نصت على أنه لا يجوز تجزئة النفقة إلا إذا رأى المرجع الصالح لعقد النفقة أن ماهية الأشغال أو اللوازم أو الخدمات المراد تلزيمها يستلزم ذلك.
أمام وضوح الثغرات التي تعتري عملية الشراء العام في لبنان، ما هي الخطوات التشريعية التي أخذتها الدولة في هذا الإطار؟
انضم لبنان الى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بموجب القانون رقم 33 بتاريخ 16/10/2008 وتلزم هذه الاتفاقية كل دولة طرفًا، وفقًا للمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، بالخطوات اللازمة لإنشاء نظم شراء مناسبة تقوم على الشفافية والتنافس وعلى معايير الموضوعية في اتخاذ القرارات، فكان اقتراح قانون الشراء العام في لبنان 2020 الذي يهدف بحسب ما نصت المادة الأولى منه الى إبراز المبادئ الأساسية الخاصة بتعزيز عنصر المنافسة واعتماد الشفافية والمساواة بين جميع العارضين إضافة الى علنية الإجراءات وتفعيل الرقابة والمحاسبة والأهم من ذلك إخضاع عملية الشراء الى قواعد الحوكمة الرشيدة والتنمية المستدامة واللافت في هذا الاقتراح هو الإشارة الى عدم استثنائية أي عملية شراء لهذا القانون.
ولا بد من التنويه إلى كون الإقتراح يتضمن استحداث جهتين أساسيتين، الأولى هي إدارة الشراء العام والثانية لجنة الإعتراضات، وهي لجنة شبه قضائية، للبتّ بالمراجعات والشكاوى.
إن تطوير الشراء العام وجعله يتناسب ويتماشى مع الحوكمة والإدارة الرشيدة يتطلب ممارسات جدية وحديثة كما ووجود نية سياسية واضحة لمراعاته، فضلًا عن رسم سياسات استراتيجية ورفع درجة الوعي حول أهمية هذه السياسات، واعتماد دفاتر شروط نموذجية موحدة.
كل ذلك يدفعنا للعمل في سبيل تحديث وإعداد نصوص قانونية متعددة خاصة بموضوع العقود والصفقات العمومية وتعزيز الشفافية والتنافس والعلنية والمساواة. وكلنا يعلم علم اليقين بأن القانون العصريّ لا يكفي وحده، إذا لم يترافق مع مجموعة من التدابير الإصلاحية المتلازمة، في مقدمها توصيف واضح وصريح للأدوار والصلاحيات، وتطوير دور إدارة المناقصات، وخلق رؤية استراتيجية وطنية مبنية على تضافر جهود تصب كلها في سبيل حماية المال العام.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024