آراء وتحليلات
التحول من أوراسيا إلى "الصيناسيا"
محمد علي ابراهيم
من المعروف عند خبراء الجيوبوليتيك بأن لكل قرن الجيوبوليتيك الخاص به. فمنذ أوائل القرن العشرين وقيام ألمانيا، تصاعد الصراع في أوروبا بينها وبين الدولتين العظميين "بريطانيا" و"فرنسا" آن ذاك حول من يسيطر على أوراسيا التي تعتبر الجزيرة العالمية ومنها تنطلق السيطرة على العالم. ففرنسا وبريطانيا فرضتا سيطرتهما العالمية باعتمادهما على قواهما البحرية "التالاسوكراتيا" التي أعطتهما سرعة انتقال الى أقاصي العالم واستعمرتا الكثير من الدول الغنية بالموارد الطبيعية وأمسكتا بمفاصل التجارة العالمية من مضيق مالقا وباب المندب وهرمز الى رأس الرجاء الصالح ولاحقاً قناة السويس وذلك بفضل أساطيلهما البحرية. ومع الإنتشار الفرنسي البريطاني في العالم كان هناك من يبني قوته في أوروبا في الحديقة الخلفية للدولتين العظميين ويخطط للتوسع البري والسيطرة على أوروبا والإتجاه شرقاً باتجاه روسيا والسيطرة على أوراسيا، فكانت ألمانيا التي اعتمدت على بناء قوى البر "التيلوركراتيا" وبناء المجال الحيوي الخاص بها في كل أوروبا وصولا إلى روسيا وغرب أسيا وامتلاك خطوط تجارية برية تؤمن لها امتداداتها التجارية وموادها الأولية بشكل مستقر ومستدام. ومن هنا كان ما عرف بخط سكة حديد برلين بغداد.
التحرك الألماني نتج عنه قيام حربين عالميتين أدّتا الى انتهاء السيطرة الأوروبية على العالم وقيام قوتين جديدتين شرقية "الاتحاد السوفياتي" وغربية "الولايات المتحدة" بإستراتيجيتين مختلفتين تصارعتا إلى ما قبل نهاية القرن العشرين. وكانت نتيجة ذلك:
1ـ إنهيار القوة الشرقية وتكبيلها عسكريًا في ما عرف بحلف "الناتو".
2ـ محاولة ألمانيا الإلتفاف على نتائج الحرب العالمية والتحرر من معاهدات ما بعد الحرب العالمية الثانية بخلق الإتحاد الأوروبي الذي قال عنه الإنكليز إنه حيلة ألمانية لإعادة السيطرة على أوروبا.
3ـ إطلاق اليد العسكرية الأمريكية في العالم وسيطرة إستراتيجية مطلقة على كل مفاصل الجغرافيا والتجارة العالمية.
* التحول في الجيوبوليتيك:
في آخر عشرين سنة من القرن العشرين وأول عشرين سنة من القرن الحالي حدثت تغيرات وتراكم نوعي في مسار الجيوبوليتيك العالمي، فالجزيرة العالمية التي تمثلها أوراسيا أصبحت في حالة جمود كبير بحيث إن "الناتو" وصل الى أقصى حد في توسعه ووقف على حدود روسيا، وروسيا "الأرض الجائعة" لم تعد في شره التوسع الجغرافي باتجاه أوروبا المترهلة كما كانت من قبل. تغير توجه التفكير في السيطرة عند الدول الكبرى إلى مكان ثقل آخر وحيث نبتت قوى برية لها عمق استراتيجي جغرافي واقتصادي لا تطاله سطوة الأساطيل العسكرية، أي الى قلب آسيا حيث يعاد إحياء أقدم طريق تجاري بري في العالم يمتد من شواطىء الهادىء إلى سواحل الخليج والبحر المتوسط متجاوزًا مضيق مالقا وهرمز وباب المندب وقناة السويس، ومتجاوزًا التحكم الأمريكي بهذه المفاصل الجغرافية. هذا الطريق تبنيه الصين بالتعاون مع دول وسط وغرب آسيا، وفي نفس الوقت بدأت الصين بتعزيز الحماية البحرية في منطقة بحر الصين الجنوبي ومضيق مالقا ببناء جدار الرمل العظيم من مئات الجزر الاصطناعية ـ تصل إلى ألف جزيره ـ لاستخدامها في الخطط الدفاعية إضافة إلى تعزيز أسطولها البحري بحاملات الطائرات، وفكفكة العقد القلب آسيوية.
ومع اكتمال البناء الإقتصادي والحمائي العسكري والإتفاقيات الدولية بين الصين التي تشكل حاليًا مصنع العالم ودول وسط وغرب آسيا التي تحتوي على ثروات طبيعية هائلة وتشكل الحلف الاقتصادي العظيم من شرق آسيا وأساسه الصين إلى غربها حيث المتكأ الجمهوري الإسلامي الإيراني ذلك يعني أن الثقل النوعي في الجيوبوليتيك العالمي انتقل من التشكيل الأوراسي الى تشكيل جديد اسمه "صيناسيا" وهذا التشكيل الشرقي القاري الإستراتيجي يواجه التشكيل الغربي البحري الإستراتيجي في السيطرة ويسحب نسبيًا بساط التحكم الأمريكي الغربي بالمضائق الأساسية في العالم. فعند الإنتهاء من الصورة النهائية لحلف بكين - طهران وجعل المجال الحيوي للطريق البري الممتد من سواحل الهادىء الى المتوسط، ومع اهتزاز السيطرة الأمريكية في الخليج الفارسي ومضيق هرمز لصالح الجمهورية الإسلامية، وانقلاب الموازين في اليمن ومضيق باب المندب، وانقلاب الموازين على الساحل الشرقي للمتوسط، والتحضيرات الصينية في مضيق ملقا، ذلك يعني سحب بساط القدرة والتحكم من تحت أهم ثلاثة أساطيل أمريكية تعتمد عليها الولايات المتحدة في فرض سيطرتها العالمية وهي الأسطول السادس في المتوسط، والخامس في الخليج والمحيط الهندي، والسابع في المحيط الهادىء، وهذا يعني إعادة وقوف قوى البر بوجه قوى البحر وفكفكة إستراتيجية الأناكوندا الأمريكية التي تعتمد على الحصار والخنق عن طريق التحكم بالبحر والسواحل والمضائق، فالصين وإيران فعليا قد تحررتا من الحصار والتهويل بالحصار وقطع الطرق التجارية البحرية عليهما بفضل التشكيل الجيوسياسي الجديد الذي يشكل ظهيرًا قاريًا وعمقًا استراتيجيًا شل اليد الطويلة للقوة العسكرية الأمريكية وفتح طرق تجارية جديدة محمية تمر في عمق آسيا وسهل وصول وتبادل الموارد والبضائع بين شرق العالم القديم وغربه وشكل غطاء حماية لروسيا في موضوع وصول غازها الى أوروبا من دون منافسة، وقطع الطريق على نقل الغاز من حلفاء الولايات المتحدة إلى أوروبا، وهذا ما يجعل روسيا تدخل تلقائيا ضمن المجال الحيوي" للصيناسيا".
وبالتالي فإن للقرن الواحد والعشرين، ونتيجة للتغيرات الدولية، تشكيلًا جيوسياسيًا مختلفًا عن القرن الماضي وهذا الإختلاف يجعل الإستشراس الغربي الأمريكي في السيطرة على أوراسيا الجزيرة العالمية وقلب العالم ومنطقة غرب أسيا وشمال أفريقيا في حالة من الأفول، ويجعل قوى البحر (الولايات المتحدة و"الناتو") في حالة تراجع أمام الإنبعاث الجديد والقوي لقوى البر "الصين والجمهورية الإسلامية".
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024