آراء وتحليلات
أوكرانيا بين "الناتو" وروسيا: هل تقع المواجهة؟
شارل ابي نادر
كان لافتًا التغيير غير البسيط في موقف حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد تسلم الرئيس الأميريكي جو بايدن ولايته، مقارنة مع ما كان عليه في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب. التغيير لم ينحصر فقط في تحسّن علاقة دول الحلف المذكور بين بعضها بعضًا، والتي عادت تقريبًا الى سابق عهدها - مع بعض التحفظات الجدية تجاه تركيا لناحية مواقفها غير الملائمة لسياسة الناتو بشكل عام - فقد طال التغيير النقطة الأساس في أسباب نشأة الحلف، والمتعلقة بمواجهة الاتحاد السوفياتي سابقًا (روسيا اليوم)، لدرجة ظهر معها موقف الحلف وبدفع وتوجيه وادارة مباشرة من إدارة الرئيس بايدن، وكأنه يستعد جديًا للمواجهة مع الروس، وتوقيت هذه المواجهة، فقط بانتظار الفرصة المناسبة المؤاتية.
في الواقع، هذا التغيير في موقف وعلاقات دول الناتو، لم يكن هدفًا أساسيًا من أهداف استراتيجية الرئيس بايدن الجديدة، بل كان وسيلة للانطلاق في أكثر نقاط استراتيجيته الأساسية حساسية، وهي: اطلاق معركة منافسة الصين وروسيا بأعلى مستوى، حتى لو تطلب الأمر مواجهة عسكرية. ولكي يحضّر لهذه المواجهة وتحديدًا فيما خص مواجهة روسيا، اعتمد بايدن المناورة التالية:
أولًا: بشكل سريع دون مقدمات أو تحضيرات، أعاد الرئيس بايدن اللحمة الى دول الناتو، وانطلاقًا من مناورة بحرية في المتوسط، (ديناميك مانتا)، اجتمع خصوم المتوسط الأشرس: تركيا وفرنسا، وتركيا واليونان، تحت شعار حماية سواحل دول "الناتو" المتوسطية من الغواصات والصواريخ الروسية، والتي كان قد تطور انتشارها في المتوسط مؤخرًا بشكل لافت وغير مسبوق، وتم من خلال هذه المناورة، بناء أول مدماك من مداميك الحلف الدفاعية، التعاضد بمواجهة الوحدات الروسية في المتوسط.
ثانيًا: إطلاق التحضيرات الجدية لتنفيذ أكبر مناورة بحرية - جوية في الشمال، في شهر أيار- مايو، بين بحر البلطيق وبحر الشمال وعلى السواحل الشمالية للقارة العجوز، بين استونيا، لاتفيا، ليتوانيا، بولونيا، المانيا، فرنسا وبريطانيا، وبهدف ظاهري لتفعيل التنسيق بين الدول الأطلسية المذكورة، أفهم الروس ما يضمره لناحية إكمال وتفعيل الانتشار الإستراتيجي شمالًا بمواجهتهم.
ثالثًا: بطريقة لافتة وبما يشبه الانطلاق على صفارة واحدة، انهالت انتقادات التصويب الأوروبي والأميركي ضد روسيا في ملف حقوق الإنسان، وتحديدًا فيما خص اتهام روسيا بمحاولة تسميم المعارض الروسي نافالني وتوقيفه لاحقًا، ومن جهة أخرى، في ملف سياسة واجراءات الأخيرة في أوكرانيا، وبالتحديد في سيطرتها غير المشروعة (حسب ادعاء الناتو) على شبه جزيرة القرم، وموقفها المتدخل مباشرة لدعم انفصاليي اقليم دونباس شرق أوكرانيا، وكل ذلك تحضيرًا لفتح المواجهة الأكثر حساسية ضد روسيا، وفي المنطقة التي تشكل خاصرتها الرخوة: أوكرانيا.
في الواقع، تم اختيار أوكرانيا من قبل "الناتو" كنقطة ارتكاز لمواجهة الروس، وذلك لعدة أسباب، فهي تشكل واجهة روسيا الغربية على البحر الأسود وبحر أزوف، وبالتالي تشكل مدخل روسيا الحيوي نحو البوسفور والدردنيل فالمتوسط، كما وتُعتبر أوكرانيا حاليًا، خط الدفاع الاستباقي الأخير بين دول الناتو وبين البر الروسي، بعد أن كان هذا الخط خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي متقدمًا غربا إلى عمق أوروبا الشرقية، بين بولونيا وألمانيا الشرقية وهنغاريا ورومانيا.
من جهة أخرى، بعد المتابعة الروسية لمسار التطورات الميدانية والعسكرية الأخيرة في إقليم دونباس (شرق اوكرانيا)، حيث ازدادت بحسب موسكو ضغوطات السلطات الأوكرانية على مناطق الإقليم الانفصالي، والقريب بتوجهاته السياسية والاجتماعية من الروس، وعلى خلفية تحضير الناتو قريبًا، لمناورة أخرى حساسة في البحر الأسود على تخوم الساحل الوحيد لروسيا نحو الجنوب والجنوب الغربي، رأت القيادة الروسية في رفع مستوى الانتشار العسكري في مناطقها الحدودية مع شرق أوكرانيا، حاجة ماسة من الناحية الميدانية والعسكرية والأمنية والقومية، الأمر الذي أثار حفيظة الناتو، واعتبر ذلك من باب التحضير لعمل عسكري روسي في الاقليم المذكور، بما يشبه ما حصل في شبه جزيرة القرم.
حاليًا، بين انتشار روسي غير بسيط وعلى مرمى حجر من وسط اقليم دونباس الانفصالي شرق أوكرانيا، وبين استنفار أوكراني واسع وبمستوى غير مسبوق، مدعوم بتصاريح ومواقف حاسمة، أميركية وأوروبية، ضد الانتشار الروسي المذكور، وبين حاجة روسيا الحيوية لعدم خسارة تلك الواجهة الأخيرة على حدودها، وبين قرار الناتو بعدم افساح المجال لروسيا لاستغلال تطورات الوضع والسيطرة على الاقليم واعلان استقلاله عن أوكرانيا تحت عنوان (القرم رقم 2)، كيف يمكن أن تتطور المواجهة؟
في ظل استحالة الصدام العسكري المباشر بين الناتو وروسيا، وهو أمر لم يحصل سابقًا حتى في أزمات أخطر من أزمة أوكرانيا الحالية، ومع خطورة وتداعيات الصدام المباشر الذي لن يكون في مصلحة أحد، يمكن أن تثبت المواجهة على الشكل التالي:
أولًا: إبقاء التوتر مرتفعًا في اقليم دونباس، مع استمرار بعض الاختراقات الأمنية والعسكرية.
ثانيًا: إبقاء الانتشار الروسي على حاله في الأراضي الروسية وعلى الحدود مباشرة مع شرق أوكرانيا، بحيث يظهر وكأنه حماية بعيدة وغير مباشرة لانفصاليي الدونباس، وليكون في الحقيقة نقطة ارتكاز للمدافعة الاستباقية بمواجهة الناتو.
ثالثًا: رفع منسوب المناورات الأطلسية في المنطقة مع اقترابها أكثر من السواحل الروسية على البحر الأسود.
وأخيرًا: تثبيت نقطة ربط نزاع في أوكرانيا وشرقها، بين الناتو وبين روسيا، وفي وضع يشبه أوضاع ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، إطلاق ما يشبه الحرب الباردة في عمق شرق أوروبا وعلى الحدود الغربية لروسيا مباشرة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024