آراء وتحليلات
الخضوع للأمركة: طريق الذلّة والتخلّف
أحمد فؤاد
ما بين طريقين، لا ثالث لهما، اختارت نظم الحكم أو شعوب المنطقة أن تبدأ رحلتها، على القضبان الأميركية، أو في طريق المقاومة الصاعد. الغريب أن الطريق الثاني كان دائمًا الأكثر كلفة وصعوبة، رغم تجنب الكثير من حوادث المسيرة وعقباتها الاصطناعية.
اليوم، وفي وسط الضجيج الذي يلف الشرق الأوسط، ويمزقه، في عصر ما بعد راعي البقر ترمب، بدأت الأمم التي اختارت مصائرها في معاينة ثمار الفعل تنضج على سيقان الواقع لا الآمال، بعضها حنظل روي بماء الانكسار ونما في طريق من الذلّة والتخلّف، وآخر رزق مبارك فيه ما يشفي الصدور ويغازل العيون.
الجمهورية الإسلامية التي افتتحت طريقًا جديدًا، وقعت خلال الأسبوع الحالي اتفاقية اقتصادية قد تكون الأهم في تاريخها، مع التنين الصيني الصاعد، لتصنع خارطة مغايرة تمامًا للعلاقات بين دول المنطقة وإحدى القوى العظمى.
المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، قال إن اتفاقية الجمهورية الإسلامية والصين تعد خارطة طريق كاملة، تشكل مجالات سياسية واقتصادية إستراتيجية، تغطي التعاون في مجالات التجارة والاقتصاد والنقل، وترفع التبادل التجاري بين البلدين إلى 10 أمثال، أي نحو 600 مليار دولار.
وما هو مؤكد من حجم احتفاء الجانبين بهذه الاتفاقية، هو أن لغة البلدين ارتقت إلى مستوى التحالف بعيد المدى، خاصة مع مدة الاتفاقية الطويلة، والبالغة 25 عامًا.
وخلال تلك اللحظات شديدة الحساسية، عميقة التأثير، في مستقبل المنطقة وآمال شعوبها، تحدث آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي، الأحد، ليضع أمورًا في نصابها، مع ارتفاع طنين المهزومين والمرجفين، المطالبين باقتناص فرصة ما بعد ترمب، لإنهاء الحصار على الجمهورية الإسلامية.
غرّد آية الله العظمى سماحة الإمام السيد علي الخامنئي عبر حسابه باللغة العربية على موقع تويتر، قائلًا: "هناك طريقان لمواجهة الحظر: أحدهما، أن نذهب إلى فارض الحظر ونرجوه: ارفعوا هذا الحظر، فيضع بعض المطالب الاستكبارية على الطاولة، ويقول: افعلوا هذه الأشياء، ثم أُخفّض مقداراً من الحظر، هذا أحد الطرق، وفي الحقيقة هو طريق الذلّة والتخلّف".
وأضاف "الآخر هو تفعيل طاقتنا الداخلية وأن ننتج في الداخل السلعَ الخاضعة للحظر. عندما يرى الطرف المقابل إنتاج هذا المنتج في الداخل، سوف يركض إلينا من تلقاء نفسه، لأنهم أنفسهم يستفيدون من هذه التجارة في السلع، وهذا يُوجِب رفع الحظر أو أن يصير بلا تأثير"، وختم سماحته: "الشعب الإيراني اختار الطريق الثاني".
دولة أخرى، اختارت في هذا اليوم، بالضبط، قبل 42 عامًا، أن تسلم قلاعها، وتفتح حصونها، وتبيع - ضمن ما باعت - دماء أبنائها وزهرة شبابها، بحثًا عن الرخاء الأميركي الموعود. دفعت مصر - الرسمية - كل ما طُلب منها وزيادة، لدخول الجنة الأميركية طوال 42 عامًا سوداء.
في اليوم الذي اختاره السادات ليوقع اتفاقه المشؤوم مع السفاح مناحم بيجن، تحت العلم الأميركي، وبرعايته، 26 مارس 1979، تضرب مصر موجة من الحوادث لا يجمع بينها سوى رابط التبعية والعجز والتخلي، ويلفها زمن كامل من التيه وانعدام البصيرة، وغياب كلمة أولويات عن كل نظام حكم جاء متوافقًا مع كامب دافيد واتخذ منها شرعيته الأولى ودستوره الأقدس.
حادثة قطار، ثم انهيار عقار، فحريق هائل، وأخيرًا أساسات "كوبري" تنهار قبل أن يبدأ التشغيل حتى، ودماء نازفة بطول البلد وعرضه، من قلب القاهرة إلى الصعيد وصولًا لوسط الدلتا، كلها أضحيات تدفع فاتورة العصر الأميركي، وطريق الذلّة.
الواقع المصري المرير، من عجز كامل وتراجع وتبعية في أصغر القرارات قبل أخطرها، ليس نتيجة فشل رئيس أو حكومة، ودماء البسطاء -حصرًا - من ضحايا الحوادث المتتالية لا تعود لفشل ما قيل قبل ست سنوات إنه إصلاح اقتصادي، هو الوجهة النهائية لأنظمة قادت قطار الوطن على الطريق الأميركي، الغارق بأضواء التمنيات الكاذبة.
لم يوقع السادات، ولم يقبل مبارك، ولم يتحمس السيسي، لمعاهدة سلام مع الكيان الصهيوني، فقط، بل حكموا تحت الشروط الأميركية، وبالرضا الصهيوني المعلن غير الخافي، لبيع الدور ورهن المستقبل وخيانة الأمة والشعب، والالتحاق بركب التبعية الكاملة وغير المشروطة للغرب.
خلال 4 عقود، مضت نظم الحكم بحماسة وكد شديدين في تفريغ وتقزيم الدور المصري بالكامل، وانكفائه داخل حدوده الجغرافية الضيقة، مرورًا بخنق إمكانيات النمو، نهاية بالاعتماد الكامل على الخارج، وتحويل الاقتصاد المصري إلى اقتصاد ريعي، قائم أساسًا على تحويلات العاملين بالخارج، والسياحة، والخدمات، والمضاربة في الأراضي.
قبل أن توقع مصر مع الكيان معاهدة الاستسلام، كان صندوق النقد الدولي في الخلفية، يعطي الأوامر، ويوزع لاءاته على كل حكومة مصرية، واستبقت الاتفاقيات الرسمية زيارة سيئة الصيت لرئيس مجلس إدارة الصندوق "جون جنتر" إلى القاهرة في مايو 1974، وضع خلالها شروط تحرير الاقتصاد المصري، وخروج الدولة من نطاق الفعل داخل السوق المحلية تمامًا.
لم تتعلم النظم المصرية الدرس، من جديد، ذهبت إلى صندوق النقد الدولي بآمال الإنعاش الاقتصادي، فلم تجن من وراء قرض الصندوق إلا خيبات متتالية ونكسات مروعة، ونظرة على الأرقام –الرسمية- كفيلة بدحض أية نية لدى دولة لتكرار المأساة المصرية مع ما ادعت إنه "إصلاح".
في عام 2015، وقع النظام المصري اتفاق قرض يتجاوز 12 مليار دولار، منذ ذلك الوقت تضاعفت الديون الخارجية والداخلية لأعلى مستوى تاريخي مسجل في تاريخ البلد، وللتصرفات المروعة قصص لا تتوقف، ففي مواجهة وباء كورونا، فإن الدولة تبيع الخدمات لمواطنيها سعيًا وراء الأرباح، فقط.
ارتفعت الديون الخارجية لمصر بعد 6 سنوات فقط من اتفاقية الصندوق الجديدة، من 46.1 مليار دولار في يونيو 2014، إلى نحو 123.5 مليار دولار في يونيو 2020، وتضاعفت الديون الداخلية من 1816 مليار جنيه في يونيو 2014 إلى 4354.5 مليار جنيه في ديسمبر، ومع تطبيق نظام ضريبي جديد، رفعت الدولة إيراداتها الضريبية من 260 مليار جنيه عام 2013/2014 إلى ما يقرب من ألف مليار جنيه (964.8 مليار) في موازنة عام 2020/2021.
اليوم تجزى كل دولة، ويجزى كل شعب بما قدم، فمن بدأ بالتضحيات يحصد مكانًا في عالم الغد، ومكانة في عالم اليوم، ومن تخلى وهرب وطمع بالذهب الأميركي البراق، لم يجن سوى الحسرات، ودعوات البسطاء تنطلق من حناجرهم المجروحة بطعم الدماء.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024