آراء وتحليلات
ملامح التعديلات الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط
إيهاب شوقي
المتابع لوسائل الإعلام وتقارير مراكز الفكر الأمريكية، يكاد يرى تطابقًا في التحليلات بشأن المعضلة الأمريكية، المتمثلة في التناقض بين الدبلوماسيين والسياسيين في إدارة بايدن من جهة، ومجتمع البنتاغون والاستخبارات من الجهة الأخرى، وهو ما يحول دون تنفيذ بايدن لوعود انتخابية ذات صلة مباشرة بالأمن القومي الأمريكي، على رأسها إنهاء ما يطلق عليه "الحرب الأبدية" على الإرهاب.
ولعل هذا التناقض لا يشير إلى أن بايدن رجل سلام بالضرورة، وإنما هو انعكاس لتناقض أعمق، يتمثل في تراجع القوة الأمريكية العظمى، وعدم قدرتها على الوفاء بالاستحقاقات الإمبراطورية، والمتمثلة في القدرة على الوفاء بتكلفة التواجد خارج البلاد بقوى عسكرية وتوفير الموارد الاقتصادية لها، سواء من ميزانيتها أو من ميزانيات مستعمراتها الخارجية، وهو الأمر الذي سبب النقاش والجدل الواسع داخل أروقة الأمن القومي الأمريكي، وترتب عليه اتفاقات غير معلنة بالرضا بمغامرات محسوبة عبر انسحابات حتمية، وبقي الاتفاق على الترتيبات التي تكفل الحد الأدنى من مخاطر الانسحاب الأمريكي.
ولعل المعضلة الأمريكية، هي معضلة عابرة للإدارات، فهي لا تتعلق بترامب أو بايدن، وإنما تتعلق بشكل مباشر بـ "الإستراتيجية الأمريكية للدفاع الوطني"، وقد ركزت الإستراتيجية لعام 2018 على التنافس مع الصين وروسيا كأولوية قصوى، وبالتالي فإن هناك تشتتًا للقوة الأمريكية يحول دون التركيز على مواطئ التمركز المتسقة مع الإستراتيجية، والتي يجب أن تتركز في أوروبا لمواجهة الروس، وفي المحيط الهادئ لمواجهة الصين.
بينما تفويض "الحرب على الإرهاب" أصبح متجاوزًا للقوة الأمريكية وتوازن القوى الدولية والإقليمية، بسبب فوات زمن القطبية المنفردة، ونشوء مقاومات في جبهات هذه الحرب، ناهيك عن كلفتها البشرية والاقتصادية والتي تسببت في أزمات أمريكية كبيرة.
من هنا نشأ مفهوم تقليص البصمة العسكرية العالمية لأمريكا. وقد أعلن وزير الحرب الأمريكي لويد أوستن أن وزارته ستباشر بمراجعة وضع القوة العالمية للبصمة العسكرية الأمريكية ومواردها واستراتيجياتها ومهامها في الرابع من فبراير الماضي.
وفي إطار هذه المراجعات، تدور الأحاديث الأمريكية عن تراجع مصادر التهديد الإرهابي وانحسار مخاطر "القاعدة" والحديث عن إمكانية مشاركة "طالبان" في الحكم في أفغانستان. وهناك سجالات وآراء مضادة توحي بأن الانسحاب من أفغانستان سيرسل برسائل سلبية إلى الشركاء وأن ذلك سيشجع المقاومات الأخرى على إخراج أمريكا دون ضمانات للمصالح الأمريكية.
ومن هنا انبرت المقترحات لمقاربة جديدة بالشرق الأوسط، نستطيع تلخيص ما رصدناه منها كما يلي:
1- هناك مقترحات بإعادة النظر في حسابات التكلفة والفوائد لعمليات الانتشار المستمرة لـ "مجموعة حاملات الطائرات الضاربة" في الخليج.
وفحوى المقترح، هو أنه يجب على البحرية الأمريكية استبدال الانتشار المستمر لحاملات طائراتها بعمليات انتشار أقصر وأقل توقعًا. وهنا تستطيع حاملات الطائرات المتمركزة في المحيط الهادئ وأوروبا الخروج من مناطق العمليات هذه وقضاء بعض الوقت في الخليج بناءً على النموذج الديناميكي لنشر القوات المدرج في "الإستراتيجية الأمريكية للدفاع الوطني" لعام 2018.
ويأمل هذا الاقتراح أن تؤدي هذه الطريقة إلى عدم القدرة على التنبؤ وتعقد عملية صنع القرار في إيران، وفقًا للمقترح.
2- مقترح بتحويل أصول "الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع" بعيدًا عن الوجود الدائم في منطقة الشرق الأوسط، باعتبار أن الأقمار الصناعية وغيرها من الأدوات تتيح بسرعة جمع معلومات جوهرية عن النقاط التي تهمّ الولايات المتحدة في المنطقة، وتستطيع القوات الأمريكية المتمركزة في أوروبا التعويض عن أي معلومات استخباراتية قد تفوتها، وكذلك يجب على البنتاغون مساعدة الدول الشريكة على تطوير قدرات مماثلة وتحسين عملية تبادل المعلومات الاستخباراتية.
ويشير المقترح إلى تعاون العدو الإسرائيلي والإمارات العربية المتحدة بعد اتفاق التطبيع، حيث اقترحتا تعزيز التعاون في المجالين الدفاعي والعسكري. ويقترح على العدو الإسرائيلي العمل مع دول الخليج لتطوير قدرات إقليمية أكثر قوة.
3- مقترح جذري لتقليل البصمة العسكرية الأمريكية، وذلك بتقليص عدد موظفي المقرات الرئيسية في الشرق الأوسط وإعادة دمجها في الولايات المتحدة خلال العقد المقبل، مع الحفاظ على عدد كافٍ من الأفراد لتلبية الاحتياجات العملياتية، باعتبار وجود العسكريين وأسرهم في الخليج نقطة ضعف وتجعلهم محل استهداف من إيران والمقاومة.
4- مقترح سحب بعض القدرات القتالية الهجومية بعيدًاً عن عمليات الانتشار الدائمة في الشرق الأوسط واستبدالها بتمارين نشر قتالية متكررة ومتعددة الأطراف ومناورات مشتركة.
ويشير المقترح إلى ضرورة بناء برامج شراكة وإجراء استشارات وتدريب ومساعدة، خاصة في العراق ومع "قوات سوريا الديمقراطية" في شمال سوريا.
5- مقترح الاستثمار في الدفاع الصاروخي، واستبدال النهج الحالي، المتمثل بنشر منظومات الصواريخ أرض - جو من نوع "باتريوت" في المواقع الحرجة، باعتباره غير مثالي، بسبب كلفته مقارنة بصواريخ المقاومة وطائراتها المسيرة.
ويفيد المقترح أنه يجب على الولايات المتحدة إعطاء الأولوية القصوى لأعمال البحث والتطوير والتعاون التي تمكّن دول الخليج من الحصول على منظومة متوفرة بسهولة أكبر وبسعر معقول لمواجهة إيران.
ويشير المقترح إلى ما قاله رئيس منظمة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية "موشيه باتيل" من أن بلاده ستكون منفتحة على العمل مع الإمارات والبحرين بشأن التعاون في مجال الدفاع الصاروخي. ويختتم المقترح بالقول إنه وفي الواقع، مع توسع التطبيع العربي - الإسرائيلي، يجب أن يتوسع هذا التعاون.
هذه المقترحات قدمها معهد واشنطن في تقرير له، وهي صدى لمقترحات ومناقشات أخرى في مجلة "فورين بوليسي" ومراكز إستراتيجية أخرى.
وما يجعلها محل اهتمام هي أن لها شواهد تؤكد تنفيذها والعمل بها على أرض الواقع، وهو ما يؤكد أن دولًا خليجية تحولت من موقع التفريط والخذلان للأمة، إلى موقع رأس الحربة للمشروع الصهيو-أمريكي، وهو ما يتطلب وقفة وطريقة أخرى للتعاطي الإعلامي والعملي.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024