آراء وتحليلات
أصل الأزمة اللبنانية: بين الولاء للاستعمار والولاء للوطن
صوفيا ـ جورج حداد
تدعي اليهودية العالمية، ومن ثم حركتها "القومية" المصطنعة: الصهيونية، أن لها حقوقًا "قومية ـ وطنية" في فلسطين، استنادًا الى الخرافات الدينية حول "شعب اسرائيل". وقد نشأت "اسرائيل" الحالية بإرادة وقوة الغزو الاستعماري للشرق العربي، واتفاقية سايكس ـ بيكو، ووعد بلفور، وقرار تقسيم فلسطين، والدعم الاستعماري البريطاني والأميركي والعالمي للصهيونية واليهودية العالمية.
ولكن السؤال هو: هل أن الكيان الصهيوني وحده هو الذي نشأ بإرادة وقوة الاستعمار؟
إن الوقائع التاريخية تجيب بأن جميع الكيانات القطرية العربية نشأت ضد إرادة جماهير الأمة العربية، وفقط بإرادة الدول الإاستعمارية، ولمصلحة الاستعمار والطبقات الحاكمة في أنظمة الكيانات القطرية العربية الموالية للاستعمار، موضوعيًا أو ذاتيًا أو كليهما معًا.
وكل ذلك ينطبق تمامًا على "جمهورية الجنرال غورو" التي سماها بنفسه: دولة لبنان الكبير!
وقد أقام الدولة اللبنانية على قاعدتين سلبيتين هما:
أولًا ـ إلحاق مناطق بيروت والبقاع والجنوب والشمال بـ"متصرفية جبل لبنان" السابقة، الموروثة من العهد العثماني.
وثانيًا ـ فصل كل الكيان اللبناني الجديد عن بيئته العربية القريبة خاصة (سوريا، فلسطين، الاردن والعراق)، وعن بيئته القومية العربية عامة.
وكما أن جمع علامتين سلبيتين ( ــ + ــ لا يعطي علامة ايجابية (+) بل يعطي علامة سلبية (ــ) مضاعفة، فإن جمع قاعدتين سلبيتين لا يبني "دولة ـ وطنا"، وهذا لا يعني ابدا عدم انتماء الانسان "اللبناني" إلى أرضه والى جماعته الانسانية، بل بالعكس. وبكلمات أخرى، إن "دولة لبنان الكبير" لمؤسسها الجنرال غورو، قد نشأت ضد ارادة الغالبية الساحقة من السكان او الشعب، وبالتعبير الطائفي فإن "دولة الجنرال غورو" قد نشأت ضد ارادة الغالبية الساحقة من المسلمين (السنة والشيعة والدروز)، والمسيحيين الاورثوذوكس والكاثوليك وغيرهم، وقسم كبير من المسيحيين الموارنة، وربما أكثر من نصفهم.
واذا راجعنا كل تاريخ وجود "دولة لبنان الكبير"، بكل تفاصيله، نتأكد بالملموس أن "الكيانية اللبنانية"، المجسدة في"الدولة اللبنانية"، كانت على الدوام ظاهرة مغايرة ومعادية لـ"الشعب اللبناني"، وموالية للغرب الاستعماري الذي أوجدها.
وتأييد البطريرك الياس الحويك حينذاك لمشروع "دولة لبنان الكبير" لا يعني البتة أنه هو منشئ تلك "الدولة". فكل دوره لا يتعدى تأييد مشروع صنعه الاستعمار الفرنسي بدعم من قبل الاستعمار البريطاني بموجب تقسيمات اتفاقية سايكس ـ بيكو.
ومع أن فرنسا هي دولة "غربية"، مولودة من رحم الثورة الفرنسية، ومن ثم فهي معادية للإقطاع وللسلطة الاكليروسية، وتفصل تمامًا بين الدين والدولة، فإنها ـ من أجل تحقيق أهدافها الاستعمارية ـ طبقت في "لبنان" سياسة "شرقية" تمامًا، هي نسخة مطورة عن نظام الإقطاعيات والملل العثماني. ومن المعبر أن نذكر هنا أن أحد المفوضين السامين الفرنسيين (وكان معروفًا في فرنسا بمعارضته الشديدة للاكليروس) شوهد يحضر قداسًا في لبنان، فسأله عن ذلك أحد الصحفيين الفرنسيين متعجبًا، فأجابه "ان فرنسا تستأهل قداسا!" (اي انه يحضر القداس ليس ايمانا بالطقوس المسيحية، بل لترسيخ النزعة الطائفية لدى "اللبنانيين"، لاجل مصلحة فرنسا).
وانطلاقًا من مصالحها الاستعمارية، طبقت الإدارة الفرنسية في لبنان سياسة استعمارية طويلة الأمد في منتهى الخبث، قامت على الأسس التالية:
ـ1ـ المحافظة على الطابع الطبقي التقليدي للدولة الجديدة، من خلال المحافظة على القيمة الاعتبارية المميزة للمقامات العائلية الإقطاعية الموروثة من العهد العثماني (بيك وباشا ومير وشيخ الخ) حتى ولو كان بعض الزعماء والوجهاء التقليديين مناوئين للانتداب، وذلك من أجل استمالة هؤلاء الزعماء والوجهاء وإشعارهم بأن "هذه الدولة" هي "دولتهم"، وأن مكانتهم ومصالحهم ستبقى مصانة في النظام الجديد، كما كانت في العهد العثماني وأكثر. وقد عززت الإدارة الاستعمارية مكانة الزعامات التقليدية بالمزاوجة العضوية بينها وبين الاقتصاد الرأسمالي للبلاد، وخاصة من خلال التنفيعات والرشى الكبيرة والتمويل، بالاستناد الى الهيمنة الاستعمارية على الحياة الاقتصادية والدورة المالية والبنوك وإصدار العملة المحلية وربطها بالفرنك الفرنسي في حينه، تمامًا كما تم في المرحلة المعاصرة ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي وما نتج عنه من كارثة اقتصادية راهنة في لبنان.
ـ2ـ العمل لتضليل النخب المثقفة ولا سيما الشباب بأكذوبة وجود "قومية لبنانية" عمرها آلاف السنين، وأن المسيحيين اللبنانيين وبالأخص الموارنة هم الورثة الأوائل لتلك "القومية"، وأن فرنسا الاستعمارية ـ المسيحية هي الأم الحنون التي أعادت توليد "الأمة اللبنانية" المزعومة، وأن المسيحيين هم جزء من الغرب "المسيحي". وتعتمد هذه الأكذوبة على الربط الأسطوري المتخيل بين "دولة لبنان الكبير" وبين إمارة فخر الدين المعني الثاني، كما تخلط بين الموارنة و"الامة اللبنانية" المزعومة وبين الكنعانيين والفينيقيين والاراميين. ولكن وقائع التاريخ تقول ان امارة فخر الدين لم تقتصر على جبل لبنان، بل امتدت من بيروت الى جنوب فلسطين والى شمال حلب، وأن فخر الدين لم يكن مارونيًا أو مسيحيا بل درزيا، ولم يكن حتى من أصل عربي، بل كان ايوبيا (كرديا)، وان القديس مار مارون (الذي تسمى الطائفة المارونية الكريمة على اسمه) لم يكن كاثوليكيا وتابعا لروما، بل كان سريانيًا أورثوذوكسيًا مناوئًا لروما ولبيزنطية المترومنة، وانه لم يكن "لبنانيا" بل "سوريًا" من شمال سوريا، وان الموارنة قدموا الى جبل لبنان من شمال سوريا، ولا تزال السريانية الى اليوم لغة طقسية مقدسة في الكنيسة المارونية، وان البطريركية المارونية ومقرها في جبل لبنان لا تزال تسمى "بطريركية انطاكية وسائر المشرق" (وانطاكية هي المدينة المسيحية العظيمة في شمال سوريا، وتحتلها اليوم تركيا). كما أن الفينيقيين والكنعانيين لم يكونوا "لبنانيين" فقط بل كانوا "سوريين" و"فلسطينيين" أيضًا. وأن الآرامية لم تكن خاصة بـ"اللبنانيين" فقط، بل كانت رابطة لغوية ـ ثقافية انتشرت في غالبية منطقة الحضارة الهيلينستية القديمة من مصر وشمال افريقيا الى عراق العرب وعراق العجم. وأن السيد المسيح ذاته كان عبراني النسب، إلا أنه كان فلسطيني المولد والانتماء، وآرامي اللغة والثقافة والرسالة.
ـ3ـ تركيب الدولة "اللبنانية" على أسس طائفية بالكامل، من أصغر موظف الى رأس الهرم، وإعطاء الطائفة المارونية وضعًا أوليًا مميزًا في التركيبة الطائفية اللبنانية، وذلك من أجل دفع الطائفة المارونية الكريمة الى التمسك بالعلاقة مع فرنسا الاستعمارية خاصة ومع الغرب الاستعماري عامة، والإيحاء المضلل بأن موارنة لبنان هم جزء من "الغرب المسيحي".
والهدف الأساسي لإعطاء الطائفة المارونية الأولوية في النظام الطائفي اللبناني هو ايجاد تيار شعبوي ماروني خاصة ومسيحي عامة، موال للغرب الامبريالي والصهيونية، وذلك من خلال استغلال ما يسمى "عقدة الخوف" عند المسيحيين، الناشئة عن اضطهاد المسيحيين، في العهود السابقة، من قبل أنظمة الحكم والسلطنات والقوى الاقطاعية والعشائرية، المسماة "اسلامية"، والزعم الوهمي بأن فرنسا والغرب الاستعماري "المسيحي"، هو منقذ وحامٍ للمسيحيين. مع أن كل وقائع التاريخ تكذب هذا الزعم، وتؤكد ان الدول الغربية الاستعمارية، بالاشتراك مع اليهودية العالمية، كانت على الدوام تتآمر مع السلطات لذبح وتشريد المسيحيين الشرقيين: اللبنانيين والسريان والاشوريين والارمن واليونانيين والاقباط الخ.
وتدخل في هذا السياق العملية المستدامة لإغراء المسيحيين بالهجرة الى الغرب، مع الاحتفاظ بوضعهم المميز في النظام الطائفي للكيانية اللبنانية، وذلك من أجل جعلهم أقلية ضعيفة تشعر بالخوف من الأكثرية الاسلامية وتطالب بالحماية من الدول الغربية ومن الانظمة العربية الرجعية والدكتاتورية، المتحالفة سرًا او علنا مع الامبريالية العالمية والصهيونية.
ونظرا للدور المركزي لوجود "اسرائيل" في هذا النظام التقسيمي الاستعماري للمنطقة العربية، فإن المقياس العملي للوطنية يصبح بالتحديد: المقاومة والكفاح لأجل تحطيم الحجر الأساس للتقسيم الاستعماري، المتمثل في الكيان الإسرائيلي.
وكل أزمة لبنان الراهنة ليست سوى مظهر للصراع بين "الكيانية اللبنانية" الموالية للغرب الأمبريالي والصهيونية، وبين "الوطنية اللبنانية" الحقيقية، القائمة على مقاومة الامبريالية واليهودية العالمية وحجرها الأساسي في المنطقة: "اسرائيل".
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024