آراء وتحليلات
لبنان في زمن الإستعمار.. روح ثورية بالمرصاد
صوفيا ـ جورج حداد
خضعت المنطقة العربية، بما فيها الأراضي التي تشكلت منها الدولة اللبنانية الحالية، لمرحلة دامت حوالى 1000 سنة من الحكم المتتالي للأيوبيين فالمماليك وأخيرًا العثمانيين على المنطقة العربية.
وقد أدت هذه المرحلة التاريخية السوداء الى فصل المنطقة العربية عن السياق الحضاري العالمي، الذي كانت تشغل فيه مكانة طليعية مرموقة، ورميها في غياهب التخلف بكل جوانبه الإنسانية والاقتصادية والثقافية. وقد انتهت هذه المرحلة بهزيمة وانهيار السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، بعد أن قامت بإعدام جمهرة واسعة من خيرة المثقفين اللبنانيين والسوريين، العروبيين الأحرار، وتسببت بموت مئات الآلاف من اللبنانيين والسوريين في "أخذ عسكر" التجنيد الإجباري في الجيش التركي، فضلًا عن الكوليرا والأمراض والمجاعة التي "اكتملت" بموجات الجراد.
وبعد تفكك وانهيار الجيش التركي، تشكلت في دمشق الحكومة العربية برئاسة الملك فيصل بن الحسين. وفي الوقت ذاته دخلت القوات الإنكليزية ومن ثم الفرنسية فلسطين والسواحل اللبنانية والسورية وبعض مناطق جبل لبنان، الذي كان حتذاك متصرفية ذاتية الحكم في العهد العثماني. وبدأ تنفيذ اتفاقية سايكس ـ بيكو الاستعمارية، التي بموجبها تم فرض الانتداب الإنكليزي على فلسطين والأردن والعراق، والفرنسي على سوريا ولبنان، بموجب قرارات صدرت عن مؤتمر سان ريمو في 1919 وعن "عصبة الأمم" في 1920. وبدأت المقاومة الشعبية بما فيها المسلحة، ضد الاستعمار الإنكليزي والفرنسي، منذ الأيام الأولى للاحتلال.
ووضع "لبنان" العتيد (اي متصرفية الجبل، والمدن الساحلية وجبل عامل وسهل البقاع وسهل عكار، التي ألحقت بالمتصرفية لاحقا تحت اسم "دولة لبنان الكبير")، وضع أمام مرحلة تاريخية جديدة، هي مرحلة التسلط الاستعماري الفرنسي والغربي المستمرة الى اليوم، وهي تختلف جذريًا عن المرحلة السابقة.
وفي تلك الحقبة كان على المناطق "اللبنانية" أن تختار بين ثلاثة أشكال للدولة، تحت الانتداب الفرنسي:
ـ1ـ تحويل متصرفية جبل لبنان (أو ما يسمى "لبنان الصغير"، ذا الأكثرية المسيحية المارونية) إلى دولة منفصلة عن باقي المناطق السورية.
ـ2ـ الانضمام الى الحكومة العربية بقيادة الملك فيصل في دمشق.
ـ3ـ أو الرضوخ للمشروع الذي طبقه قائد قوات الاحتلال الفرنسية الجنرال غورو، والذي كان يدعو إليه ويدعمه بشدة البطريرك الماروني الياس الحويك. وكان هذا المشروع يقوم على قاعدتين:
الأولى ـ ضم بيروت وصيدا وصور، وجبل عامل، وطرابلس وسهل عكار، وبعلبك وحاصبيا وراشيا وسهل البقاع، الى متصرفية جبل لبنان تحت اسم "دولة لبنان الكبير"، كي تكون هذه المناطق الملحقة بمتصرفية جبل لبنان بمثابة "مدى حيوي"، تجاري واقتصادي وغذائي واجتماعي وسياسي، لمتصرفية "الجبل".
والثانية ـ فصل هذا "اللبنان الكبير" عن بقية المناطق السورية، وتشكيله في "دولة مستقلة" تحت الانتداب الفرنسي.
وفي الأيام المضطربة التي رافقت نزول القوات الإنكليزية والفرنسية، كانت المظاهرات المعادية للاستعمار الفرنسي تعم جميع المدن والمناطق "اللبنانية"، وكانت طلائع "الجيش العربي" لحكومة فيصل في دمشق قد وصلت الى مدينة عاليه، على مشارف مدينة بيروت. كما وصل مندوبو حكومة فيصل الى بيروت، والى بعبدا عاصمة متصرفية الجبل. ورفع العلم العربي في سراي بيروت وفي سراي بعبدا وغيرهما من المدن "اللبنانية". كما أعلن ثمانية من أعضاء مجلس ادارة المتصرفية الاثني عشر، المنتخبين في 1912، تأييدهم للحكومة العربية في دمشق، وكان احدهم سعد الله الحويك (شقيق البطريرك الياس الحويك). ولكن الجنرال غورو، المدعوم من قبل البطريرك الحويك، أقدم في 10 تموز 1920 على اعتقال هؤلاء الأعضاء بتهمة ملفقة، هي تلقي الرشوة من الملك فيصل، وتم نفي المعتقلين الى كورسيكا، ولم يفرج عنهم إلا سنة 1922.
وأمام هذا الفشل الذريع للمخطط الاستعماري الفرنسي والنزعة الانعزالية لدى قسم من الموارنة، اتجه الجنرال غورو نحو فرض مشروع "دولة لبنان الكبير" بقوة السلاح.
وتقول المدونات التاريخية إن الجنرال الإنكليزي اللنبي، وعملًا باتفاقية سايكس ـ بيكو، أمر بإنزال العلم العربي عن سراي بيروت وسراي بعبدا وغيرهما من المدن "اللبنانية"، ورفع العلم الفرنسي مكانه. وفي 14 تموز 1920 وجه الجنرال غورو إنذارا الى الحكومة العربية في دمشق بضرورة حل نفسها والاعتراف بالسلطة الاستعمارية الفرنسية. ولتنفيذ الإنذار زحفت القوات الفرنسية باتجاه دمشق، بالدبابات والمدفعية والطائرات. وفي 24 تموز 1920 اشتبكت تلك القوة الفرنسية الضخمة، في سهل ميسلون، مع جيش صغير مؤلف من ثلاثة آلاف من المتطوعين السوريين، ذوي التسليح العشوائي الفردي والخفيف، بقيادة البطل الوطني يوسف العظمة، الذي استشهد في تلك المعركة غير المتكافئة عسكريًا.
وتقول بعض المرويات إن عددًا من المتطوعين الموارنة، المتعصبين والمضللين، قد انضموا الى صفوف القوات الفرنسية في معركة ميسلون. ولكن في المقابل فإن المسيحيين الوطنيين في سوريا ولبنان وقفوا ضد الاستعمار الفرنسي. ويجدر بنا هنا أن نذكر مثالين:
الأول ـ أن ابن بلدة عبيه ـ قضاء عاليه البطريرك الأورثوذوكسي حينذاك (وكان يلقب "بطريرك العرب") غريغوريوس حداد قد بايع الملك فيصل ودعم انضمام الجبل اللبناني الى الحكومة العربية في دمشق. وحينما أبعد فيصل من دمشق، ذهب البطريرك الى محطة القطار وودع فيصل قائلا له: "ان اليد التي مددناها لك، لن نسحبها ابدا".
والثاني ـ أن ابن بلدة كفرحلدا ـ البترون، المسيحي التقدمي العروبي (والشخصية الاجتماعية والمناضل الشيوعي المعروف فيما بعد) الطبيب الجراح الدكتور رشيد معتوق كان في عداد المتطوعين العرب في معركة ميسلون، وكان قريبًا من البطل يوسف العظمة حينما أصيب بقنبلة دبابة فرنسية، وحاول إنقاذه، وقد استشهد يوسف العظمة بين يديه.
وتقول المدونات إنه استشهد في معركة ميسلون 400 مجاهد ووقع 1000 جريح (أي تقريبًا نصف عدد المتطوعين الـ3000)، وسقط من الفرنسيين 42 قتيلًا و140 جريحًا فقط.
وبعد أن دخلت القوات الفرنسية بقيادة الجنرال غورو الى دمشق، وجرى حل الحكومة العربية فيها وطرد الملك فيصل، عمد الجنرال غورو الى جمع الوجهاء الدينيين والإقطاعيين والسياسيين من "لبنان الصغير" و"ملحقاته" الجديدة، في مقر إقامته في "قصر الصنوبر" في بيروت، في 1 ايلول 1920، وأعلن قيام "دولة لبنان الكبير"، قائلًا لهم بالحرف الواحد: "إن الفتية الفرنسيين الذين قدموا أرواحهم في سهل ميسلون هم "عرّابو" استقلالكم!".
وعليه يمكن القول تاريخيًا إن مشروع "دولة لبنان الكبير"، لصاحبه الجنرال غورو، لم يولد بارادة "الشعب البناني"، في الجبل والساحل والجنوب والشمال والبقاع، بل ولد من فوهات المدافع الفرنسية، ضد إرادة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، بمن فيهم رجال الدين الوطنيون والشرفاء والجماهير الشعبية والنخب المثقفة والمتنورة المسيحية والمارونية.
ولكن بالرغم من النتائج السلبية لمعركة ميسلون وإعلان "الدولة اللبنانية" لصاحبها الجنرال غورو في ذلك الوقت، فإن المقاومة بكل أشكالها السياسية والمسلحة ضد الاستعمار الفرنسي لم تتوقف. وكانت أبرز عملية هي محاولة اغتيال الجنرال غورو شخصيًا، من قبل المجاهد الجنوبي البطل أدهم خنجر، في 22 حزيران 1921. ولكن الرصاصة اصابت الذراع الاصطناعية لغورو، فنجا من الموت.
والتجأ أدهم خنجر الى منزل سلطان باشا الأطرش في جبل الدروز في سوريا. ولكن الفرنسيين اعتقلوه في 7 تموز 1922 واقتادوه الى لبنان حيث تم إعدامه في بيروت في 30 ايار 1923.
وكان اعتقال أدهم خنجر الشرارة التي أطلقت القلاقل في جبل الدروز والتي أدت بدورها الى إشعال الثورة السورية الكبرى (1925 ـ 1927). وكانت آخر منطقة تم فيها إخماد الثورة هي منطقة حاصبيا وراشيا، التي شارك أهاليها على نطاق واسع في الثورة. وقد سمعت شخصيًا بعض شيوخ قرية العقبة (قرب راشيا) يقولون إن لحوم الثوار من أبناء القرية قد التصقت على جدران قلعة راشيا بعد أن أصلتهم الرشاشات الفرنسية الثقيلة بنيرانها وهم يحاولون تسلق جدران القلعة.
وتعتبر المرحلة الواقعة بين 1 ايلول 1920 (يوم اعلان "لبنان الكبير") و22 تشرين الثاني 1943 (يوم "الاستقلال") مرحلة النفوذ الاستعماري الفرنسي الكامل على "لبنان".
ولتثبيت النفوذ الاستعماري الفرنسي على الدولة الجديدة، تم بناؤها على أسس وأعراف طائفية تميزت بما يلي:
ـ1ـ إعطاء مركز مميز لما سمي فيما بعد "المارونية السياسية"، بحيث تكون الكلمة الأولى في تسيير شؤون الدولة اللبنانية، للطائفة المارونية، الموالية تقليديا للاستعمار.
ـ2ـ تقليص دور "الإسلام السياسي" ذي النزعة العروبية المعادية للاستعمار الفرنسي والغربي، عن طريق تطبيق سياسة التمييز، بكل أشكاله، بين المناطق اللبنانية، بحيث تم التركيز على منطقة جبل لبنان والعاصمة بيروت، بوصفها منطقة لبنانية "مركزية" ممتازة أو لبنانية درجة أولى، وتهميش الجنوب والشمال والبقاع بوصفها مناطق "ملحقة" ولبنانية درجة ثانية.
ـ3ـ وقد طبق التهميش بشكل خاص على الطائفة الشيعية، انتقامًا من دورها المتقدم في مقاومة الاستعمار الفرنسي. وكان ذلك ينسجم مع السياسة الأيوبية ـ المملوكية ـ العثمانية العريقة في اضطهاد الشيعة. وحتى حينما قام مئات الألوف من الشيعة الجنوبيين والبقاعيين بالنزوح الى بيروت فإن الدولة "اللبنانية جدا!" عاملتهم معاملة تمييزية، بحيث أحيطت بيروت بما سمي "حزام الفقر" الذي تكدس فيه المواطنون الشيعة الى جنب مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، مع علامتين فارقتين هما: الأولى أنه لم تكن لدى الشيعة منظمة "اونروا" تساعدهم جزئيا كالفلسطينيين، والثانية أنهم كانوا يحملون الهوية اللبنانية التي لم تحمهم فيما بعد من الذبح والتهجير من برج حمود والنبعة وحاجين وشرشبوك والمسلخ والكرنتينا، بعد ذبح وتهجير الفلسطينيين في مخيمات تل الزعتر وجسر الباشا والضبية، على ايدي "الكتائب اللبنانية جدا!" و"القوات اللبنانية جدا!".
ـ4ـ ونظرًا لأن الاستعمار الفرنسي كان مؤسسة عصرية و"راقية" تنظر الى الأمور بشكل "علمي" و"حضاري"، فقد وجدت تلك المؤسسة أنه من الضروري تشكيل حزب "عصري" ذي "عقيدة" دينية ـ عنصرية، "مسيحية" ـ "لبنانية". ومعلوم أنه في تلك السنوات كانت قد انتصرت الثورة الاشتراكية الكبرى في روسيا، وبدأ شبح الشيوعية يلوح فوق أوروبا كلها، مما أصاب الدول الرأسمالية الأوروبية الغربية بالهلع الهستيري، فظهرت الحركات الراديكالية المعادية للشيوعية: الفاشية بقيادة موسوليني في ايطاليا، والنازية بقيادة الفوهرر ادولف هتلر في المانيا، والكتائبية (الفالانج) بقيادة فرنكو في اسبانيا، مما وجد انعكاسه في صفوف المستعمرين الفرنسيين طبعا.
وانطلاقًا من ذلك عمدت بعض الأوساط الموالية للهتلرية في "المكتب الثاني ـ المخابرات" الفرنسية، بالإيعاز لبيار الجميل (الجد) بالسفر الى ألمانيا في 1936 والاطلاع على تجربة الحزب النازي، بهدف تشكيل حزب لبناني يقوده فُهَيْرر لبناني هو بيار الجميل نفسه. ورجع الشيخ بيار من المانيا شديد الإعجاب بالتجربة النازية، وشرع في تشكيل حزب "الكتائب اللبنانية" بإشراف "المكتب الثاني" الفرنسي، الذي وهب ذلك الحزب "القاعدة البحرية" la base navale، التي تحولت فيما بعد الى "المجلس الحربي" الكتائبي، ومقر للموساد في 1982، ويقوم فيها الى اليوم "البيت المركزي" لحزب الكتائب في الصيفي. وفيما بعد فرّخ حزب الكتائب "القوات اللبنانية"، وعصابات سعد حداد وانطوان لحد في الجنوب. وقاتل جميع هذه الزمر الطائفية والفاشستية العميلة، المعادية للشيوعية والعروبة والجماهير الشعبية الإسلامية، جنبًا الى جنب مع "اسرائيل"، وبالانضواء التام تحت لواء السعودية، ضد القوى والحركات والجماهير الشعبية، الوطنية والإسلامية والتقدمية اللبنانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024