آراء وتحليلات
محور المقاومة في ميزان الفلسفة والصراع الدولي
إيهاب شوقي
يتأرجح الغرب دوما بين نظريات وفلسفات ترفع القيم مثل المساواة والعدالة، وممارسات تهدر هذه القيم مثل الاستعمار والهيمنة، فيما بدا كمحصلات نهائية انها شعارات جوفاء، وقد تأثر الغرب رغم تباين مدارسه بجدلية "هيجل" الشهيرة المعروفة بـ"السيد والعبد"، ويبدو انه توقف عند تناقضاتها ولم يفقه مخرجاتها القاضية بحتمية الاعتراف المتبادل.
هنا نحن لسنا بصدد نقاش فلسفي لرصد تأثر المدارس السياسية المختلفة بنظريات هيجل او ماركس وغيرهما، بل بصدد رصد قناعات انعكست على التوجهات والسياسات ويمكن ان تقود الى تحليل الواقع واستشراف تطور الاحداث في المستقبل القريب.
فبعد انهيار جدار برلين والذي تم اعتماده كتأريخ اكاديمي لسقوط الشيوعية، ظهرت اطروحة فوكوياما الشهيرة بـ"نهاية التاريخ"، والتي تقول ان الديمقراطية الليبرالية هي اللي انتصرت وانها والرأسمالية وافكار السوق الحر تمثل نهاية التطور التاريخي والثقافي وقمة الوعي الانساني، مستخدما اقتباسات فلسفية لهيجل وغيره، كمحاولة لتسويغ اطروحته باضفاء ابعاد عقلية وروحية وفلسفية.
والملاحظ أن الفكر السائد في هذه المرحلة حاول تسفيه جميع الايديولوجيات الاخرى والخروج عن مدرسة الواقعية الكلاسيكية الأمريكية والتي كان من أشهر معتنقيها كيسنجر، وبدأ مرحلة نيوليبرالية متطرفة تصف الآخرين بالارهاب وبالخروج عن التاريخ والشذوذ عن الواقع.
وتزامنت مع ذلك أطروحات أخرى تسوغ ما أعلنته أمريكا من حرب على الارهاب، مثل أطروحة صراع الحضارات، وبدا أن العالم متجه لقطب وحيد وهيمنة امريكية خالصة.
إلا أن رفض الشعوب الحرة وبروز قادة تاريخيين لقيادة المقاومة لهذه الهيمنة، ابطل هذه الخرافات والاوهام الامريكية، فصعدت الصين كقطب اقتصادي، وروسيا كقطب عسكري رادع، وبرز محور المقاومة كقطب اقليمي مانع لابتلاع الاقليم وبطبيعة الحال اهدر احلاما جيوستراتيجية امريكية اوسع من البعد الاقليمي.
الشاهد أنه وقبل انهيار الاتحاد السوفيتي، برزت عدة ايديولوجيات ومدارس، صبغت الصراع الدولي وشكلت ردة فعل على ما تصور الغرب سابقا بشكل او باخر انه نهاية للتاريخ او وصول لذروة العقل عبر الليبرالية الغربية في أعقاب الثورة الفرنسية، وبدت كنقطة انطلاق للاستعمار والهيمنة.
فقد برزت الفاشية والنازية والشيوعية والقوميات، وبرز القادة التاريخيون واتسم الصراع بالحدة ووصل لذروته عبر الحربين العالميتين، وما تلاهما من حرب باردة.
واليوم يعيش العالم مرحلة مشابهة بدورة صراع جديدة مع اختلافات ومستجدات قد تؤثر في بعض أشكال الصراع، ولكنها قد لا تؤثر في مضمونه.
فاليوم هناك بروز جديد للقادة التاريخيين بعد مرحلة حاولت خلق اشخاص وظيفيين مهمتهم تنفيذ السياسات النيوليبرالية في كافة منطاق الصراع السابقة، فقد حاولت المؤسسات الدولية تسييد النيوليبرالية في مواطن الايدلوجيات المنافسة، مثل ايطاليا والمانيا وروسيا والشرق الاوسط وامريكا اللاتينية، بديلا عن الفاشية والنازية والشيوعية والقوميات، وحاولت خلق طبقات حكم موالية ورؤساء بلا شخصية او كاريزما او خطاب سياسي.
لكن هذه الخطة لم تنجح في الصين والتي سارت على خطى ثابتة مستقرة، ولا في روسيا التي ابرزت قائدا تاريخيا مثل بوتن، ولم تنجح في امريكا اللاتينية بشكل كامل، حيث برز قادة مثل تشافيز ومن بعده مادورو وكذلك موراليس.
أما في منطقتنا، فاصطدمت الخطة بمحور المقاومة وقادة تاريخيين يحملون ايدلوجية عصية على التشويه، فلا هي قومية بشكل عنصري يمكن صبغها بأنها تحمل انفصالا عن العالم ووحدته وتشكل انغلاقا ويمكن ضربها عبر استقطاب بعض مكوناتها واضعاف حلقاتها.
ولا هي فاشية او نازية تنادي بسيادة اعراق بعينها.
ولا هي دموية كاشكال شوهت الاسلام ورفعت رايته زورا ومارست القتل والارهاب.
فقد تميز محور المقاومة بخطاب تحرري وحضاري منفتح بدت في صراعه مع الغرب والكيان الاسرائيلي، كل سوءات المعسكر الاخر وتناقضاته، وبدت معه كل خطايا المتخاذلين والخونة.
لم تعد أوراق الغرب اليوم بنفس قوتها، من حيث ادعاء المساواة والديمقراطية وحقوق الانسان، فقد هيمنت على الغرب ذاته مدارس يمينية قومية شعبوية أصبحت منافسًا انتخابيًا قويًا، كما نرى في المانيا وفرنسا وايطاليا وغيرها من جهة، كما برز تناقض الغرب وشعاراته بتحالفه مع منتهكي هذه القيم من جهة اخرى.
وهنا نحن بصدد عودة لصراع مشابه لصراع القرن الماضي عبر ايديولوجيات صريحة وقادة تاريخيين بارزين.
لقد جسد ترامب الوجه الحقيقي لأمريكا في لحظة تاريخية كاشفة، حيث جسد وجهها الرأسمالي القومي العنصري، وقد يحاول بايدن احياء الوجه النيوليبرالي لتأجيل لحظة الصدام على خلفية قراءة استراتيجية أمريكية في دولتها العميقة بأن التوازنات ليست في صالح أمريكا.
وقد تكون مرحلة ترامب بمثابة مرحلة تجريبية لاستكشاف التوازنات الدولية وجس النبض واجبار بعض القوى على ابراز أحدث مستجداتهم من الاستعدادات، وهو ما حدث وبرزت مع ترامب قوة روسيا واظهارها لبعض ما تخفيه، وكذلك محور المقاومة وما أبرزه من استعداد وشجاعة، وهو ما قاد لإبراز شخص مثل بايدن ليعمل على التهدئة واكمال الاستعدادادت الأمريكية أو بالأحرى لحاقها بالتوازنات الجديدة والعمل على استعادة التفوق.
تبقى المعضلة هنا لمن لا يفقهون الوضع الدولي الجديد والذي في شكله احياء للنيوليبرالية، وفي جوهره صراع ايديولوجي عبر قادة تاريخيين.
فالقادة في منطقتنا هم قادة محور المقاومة، بينما موظفو النيوليبرالية هم احبار على أوراق لا يشكلون الا أدوات قد تكون عرضة للتلف أو الاستبدال وفقًا للتوازنات وتطورات الصراع وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا أو يرسمون تاريخا!
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024