آراء وتحليلات
"نيو" جولاني: التحول بين الجوهر والمظهر
محمد مرتضى
لم تكد تعلن واشنطن عن تخصيص مكافأة مالية وقدرها عشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عن زعيم جبهة "النصرة" أبو محمد الجولاني (في تشرين الثاني الماضي)، حتى عاد الصحفي الأمريكي مارتن سميث من إدلب حاملًا مقابلة معه. وقد انتشرت صورة لسميث مع الجولاني الذي نزع لباسه "الشرعية" وارتدى بدلة حديثة.
وقد أثارت الصورة الكثير من التساؤلات حول مغزاها وتوقيتها.
في التوقيت، يبدو أن الأمريكي يسعى من خلال تخصيص المكافآت حول المعلومات عن الجولاني، ليس الى الإطاحة به بقدر الحصول على تنازلات، سواء من الجولاني نفسه أو ممن قد يرثه في حال الإطاحة به. وغالبًا ما قامت الولايات المتحدة بعمليات إطاحة بقيادات في التيارات السلفية الجهادية، أدت الى وصول قيادات بديلة أكثر طواعية للتوظيف من سابقاتها.
وفي التوقيت أيضًا، تأتي الصورة في وقت حسمت فيه "النصرة" كل معاركها في إدلب لمصلحتها، وباتت الفصيل المهيمن حصريًا عليها.
وفي التوقيت ثالثًا، يأتي الشكل الجديد للجولاني مرافقًا لمحاولات تركية حثيثة ومستمرة لتسويقه غربيًا بمساعدة قطرية واضحة.
وفي التوقيت رابعًا، جاءت الصورة بعد وصول جو بادين الى البيت الأبيض، مع كل التوقعات التي تتحدث عن احتمالات العودة الأمريكية للانخراط بالحرب السورية ودعم الجماعات المسلحة ومن بينها جبهة "النصرة"، والتي لطالما كانت تتلقى الدعم القطري والتركي العلني، فيما كان الدعم الأمريكي يأتي اليها عبر استراتيجية "الأخطاء المتكررة"، دون أن ننسى أن جبهة "النصرة" كانت من أكثر الفصائل تنسيقًا مع الاسرائيلي في الجنوب السوري.
أما في المغزى، فإن التحول في مظهر ولباس الجولاني قد جاء بعد تحولات كثيرة في الجوهر، وإن كانت هذه التحولات بمجملها لم ترق الى مستوى "هجرة" الجولاني لخطاب التحريض الطائفي، والتنازل عن "الفكر التكفيري"، الا إذا اعتبرنا أن زعيم جبهة "النصرة" يعتبر أن هذا الخطاب هو "السلعة" الرائجة في عمليات الاستقطاب بالاستناد الى قاعدته، وأنه مهما غلا في التحول الى خطاب علماني، فإنه غير قادر على مجاراة بعض الفصائل الأخرى الموجودة ضمن الجماعات المسلحة.
إن رحلة التحولات التي انطلق فيها الجولاني منذ بداية نشاطه، هي رحلة طويلة، بدأت من الخروج عن طاعة "داعش" وتأسيس جبهة "النصرة" عبر الارتماء في أحضان تنظيم "القاعدة" وزعيمها الظواهري. وقد كان واضحًا أن هذا الارتماء كان يهدف الى تأمين حماية للجولاني من بطش "داعش". لكن الجولاني ما لبث، بعد أن اشتد ساعده، أن انفصل عن "القاعدة" في أولى محاولات مسيرته لتسويق نفسه غربيًا. لكن هذا التسويق، المبني على الانفصال عن "القاعدة"، ما كان ليكفي؛ إذ يحتاج الأمر الى تثبيت ركائز هيمنته على "الجغرافيا" الإدلبية من جهة، وتعديل في الخطاب المرتبط بخطوط العداوات والصداقات.
في الأولى، حسمت "النصرة" معركة الهيمنة بعد أن أطاحت بجميع الفصائل في محافظة إدلب وباتت لها السيطرة بشكل حصري، وفي الثانية، غيّب الجولاني عن خطبه الأخيرة كل ما يتعلق بأمريكا و"إسرائيل" وأوروبا وتركيا، وحصر خطابه بتحديد خطوط الأعداء "بالنظام السوري" وإيران وروسيا، مع ترجيح واضح لخطاب العداء ضد إيران وحلفائها بشكل خاص.
من الواضح أن هذا التحوّل يهدف الى مغازلة كل الأطراف المعادية لإيران في المنطقة، حتى تلك التي ربما تربطها علاقات صراع نفوذ في المنطقة مع تركيا، الراعي الرسمي لـ"النصرة".
وفي جميع الأحوال، لا يمكن التعويل على وضع واشنطن لجائزة مالية ترتبط بالجولاني؛ إذ من غير المستبعد أن تكون تلك الجائزة حجابًا يحجب الدعم المستقبلي لـ"النصرة" من قبل واشنطن.
ومهما يكن من أمر، فإنه ما بين الجوهر والمظهر، يسعى الجولاني جاهدًا لتسويق نفسه بوصفه طرفًا لا يمكن تجاهله من قبل من يسعى للاستمرار في اطالة أمد الحرب على سوريا ومساعي الإطاحة بالنظام فيها، وهو أمر، أي تحولات الجولاني، يكشف عن براغماتية فائقة عند هذه الجماعات تتعارض مع كل الإدعاءات التي تنظّر لها كتاباتهم حول الثبات على المبادئ، والتمسك بالأصول، والعودة الى السلف الصالح الذي يغدو، عند الجولاني، متجاوزًا للمكيافيلية بامتياز: فالغاية لا تبرر الوسيلة فحسب، بل تضفي عليها الشرعية الدينية أيضًا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024