آراء وتحليلات
اميركا: الوحش الامبريالي العالمي المهزوم
صوفيا ـ جورج حداد
عام 1853، وبعد أربعمائة سنة من الغزو العثماني للقسطنطينية، وارتكاب مجزرة كبرى ضد سكانها الأصليين المسيحيين الشرقيين، وعثمنتها وتحويلها الى "الاستانة" ـ عاصمة للامبراطورية العثمانية التي أناخت بهمجيتها على شعوب منطقة واسعة تمتد في ثلاث قارات ـ في تلك السنة اطلق القيصر الروسي نيقولاي الاول على تلك الامبراطورية الباغية، السائرة نحو نهايتها، توصيف "رجل اوروبا المريض".
ومنذ ذلك التاريخ بدأت مرحلة انهيار الامبراطورية العثمانية، التي اكتملت فصولها في الحرب العالمية الاولى، وذلك بالرغم من أن تركيا الاتاتوركية أتيح لها الاحتفاظ بالقسطنطينية (اسطمبول) بدعم من الدول الاستعمارية الغربية، حتى لا تتم اعادتها الى سكانها الاصليين، أو تسليمها لروسيا.
واليوم يدخل العالم في مرحلة انهيار الامبراطورية الامبريالية الاميركية.
ففي نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة الاميركية المستفيد الاكبر من الحرب، وخرجت منها بوصفها أغنى وأقوى دولة في العالم، وكانت أول من امتلك السلاح النووي، وسيطرت كليًا على استخراج وامدادات وتسويق النفط ثم الغاز، عالميًا. كما سيطرت على شبكة المواصلات التجارية، البحرية والجوية والبرية في جميع القارات (باستثناء العلاقات البينية للاتحاد السوفياتي والمنظومة السوفياتية السابقين، والصين). ونشرت أكثر من 800 قاعدة عسكرية معروفة في الخارج، لأجل فرض هيمنتها العالمية، بذريعة "حماية الامن القومي الاميركي" (وهذا عدا القواعد السرية، ومراكز وقواعد المخابرات الاميركية والسجون السرية، المنتشرة في كافة ارجاء "العالم الغربي").
وتشير الاحصاءات الرسمية الى أن قيمة المنشآت الأميركية المعروفة في الخارج تبلغ 749 مليار دولار. وبلغ عدد القوات الاميركية الفعالة المنتشرة خارج الولايات المتحدة 215 الفا و249 مقاتلاً (احصاء 2017). ويكلف الاحتفاظ بالقواعد والقوات الأميركية في الخارج ميزانية الولايات المتحدة ما بين 85 و100 مليار دولار سنويًا. وبإضافة العمليات العسكرية التي تقوم بها هذه القوات، تقفز التكلفة السنوية إلى ما بين 160 و200 مليار دولار سنويًا.
كما يبلغ عدد القواعد العسكرية الاميركية في الشرق الاوسط وحده العشرات، وعديد القوات في هذه القواعد هو اكثر من 60 الف مقاتل. وهي تنتشر اليوم بشكل خاص حول ايران، التي تفرض عليها اميركا طوقا عسكريا كاملا، بجميع انواع الاسلحة.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، انهار النظام الاستعماري القديم (colonialism)، الذي كان يتمثل بالدرجة الاولى في الاحتلال العسكري المباشر وفقدان الدول المستعمرة للاستقلال السياسي، وحل مكان الاستعمار القديم (colonialism) ما سمي الاستعمار الجديد
(colonialism- Neo)، الذي يقوم على تفريغ الاستقلال السياسي الشكلي من أي محتوى حقيقي، وعلى ربط الدول "المستقلة" باتفاقيات "الصداقة" و"الدفاع المشترك" و"الاحلاف العسكرية" و"الاتفاقات الامنية" و"القروض" و"المساعدات". وقد حلت اميركا محل الدول الاستعمارية القديمة في السيادة على الدول "المستقلة" الجديدة، بواسطة "الاستعمار الجديد" (neo-colonialism)، وذلك اما بالتراضي و"الاتفاقات الدولية"، واما بتحقيق "الانقلابات العسكرية" وانشاء ودعم الدكتاتوريات والانظمة الرجعية العميلة في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة السابقة.
وقد شكلت السيطرة الاميركية الكاملة (عسكريًا وسياسيًا واقتصايًا) على أوروبا الغربية والوسطى وعلى اليابان وبلدان الشرق الاقصى غير الشيوعية، من جهة، و"الاستعمار الجديد" (neo-colonialism)، من جهة ثانية، القاعدة المزدوجة للهيمنة الاميركية الكاملة وشبه الكاملة على ما سمي "العالم الحر" أو "العالم الدمقراطي"، بمواجهة "العالم الشيوعي" أو "المعسكر الاشتراكي"، بدعامتيه الرئيسيتين: روسيا والصين الشعبية.
وطوال مرحلة "الحرب الباردة" تركزت كل السياسة الدولية للامبريالية الاميركية على محاصرة وتقويض "المعسكر الاشتراكي"، ولا سيما روسيا والصين، بكل الوسائل والامكانيات العسكرية والامنية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والاعلامية، ولا سيما عن طريق "سباق التسلح" النووي، الذي كان يهدف الى الاستنزاف الاقتصادي لروسيا والصين، لاسقاطهما من الداخل، من جهة، ولمحاولة اصطياد الفرصة للتفوق عليهما ومهاجمتهما وسحقهما عسكريا، من جهة ثانية.
وخلال أربعين الى خمسين عامًا في أعقاب الحرب الكورية (1950 ـ 1953)، وبالرغم من الهزيمة الأميركية المدوية في الحرب الفيتنامية (التي انتهت في 1975)، فإن الولايات المتحدة الاميركية تحولت الى دولة ـ وحش، تتحكم بمصير جميع شعوب العالم، في كل مناحي الحياة، بما في ذلك بمصير وحياة شعوب روسيا والصين والدول "الاشتراكية" الاخرى، التي أصبحت محكومة بالحصار الخانق، العسكري والسياسي والامني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والاعلامي والسياحي الخ، ومحكومة بآليات ومقتضيات سباق التسلح (ومن المعبر أن أذكر هنا ما رواه لي أحد الشيوعيين البلغار القدماء، وأمه روسية، انه بسبب التدمير الهائل لروسيا في الحرب العالمية الثانية نشأت أزمة سكنية فظيعة. ولكن الدولة كانت مضطرة لتوجيه جل الامكانيات الاقتصادية لصناعة الاسلحة للدفاع عن البلاد. وحتى أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، كان الكثير من الناس في الأرياف لا يزالون يضطرون للنوم في زرائب المواشي، على القش المخصص لعلف المواشي. كما روى أحد كبار العلماء ومهندسي الصواريخ في روسيا، انه في بداية عمله في صناعة الصواريخ كانت والدته تشتغل في احد المعامل، ولكن راتبه وراتبها معا لم يكونا يكفيان دائمًا لتوفير حاجياتهما الضرورية، وكانت أمه أحيانًا تعود من العمل فلا تجد في البيت طعاما تأكله، فتقوم بفرم بصلة وترش عليها قليلا من الزيت والملح وتأكلها مع الخبز الاسود). هذا هو الشعب الروسي الذي تحمل تدمير بلده وقدم عشرات ملايين الشهداء، خلال الحرب العالمية الثانية، لانقاذ الانسانية من الوحش النازي.
ولكن بالرغم من جميع الصعوبات والتقلبات السياسية فإن الشعبين العظيمين، الروسي والصيني، صمدا بمواجهة الحصار الخانق الذي فرضه عليهما "الوحش" الامبريالي الاميركي.
وفي أوج "الفترة الذهبية" لهيمنتها العالمية، في آخر العقد الثامن من القرن الماضي، تلقى الوحش الامبريالي الاميركي طعنة لم يشفَ منها، تمثلت في انتصار الثورة الاسلامية الايرانية، المعادية للامبريالية والصهيونية، بكل ما تمثله ايران من اهمية اقتصادية واستراتيجية وجيوسياسية، في موازين القوى العالمية. وقد فشلت كل الحروب، المباشرة وغير المباشرة، والمؤامرات والحصار والعقوبات في كسر شوكة الثورة الاسلامية الايرانية المظفرة.
وفي الربع الأخير من القرن الماضي انهار الاتحاد السوفياتي والمنظومة السوفياتية السابقين، بفعل خيانة الأكثرية الساحقة من البيروقراطية "السوفياتية" الحاكمة، الستالينية والنيوستالينية. ولكن بالرغم من ذلك، فإن الوحش الامبريالي الاميركي خسر، في الحساب الأخير، المعارك الثلاث الكبرى على المستوى الدولي:
ـ1ـ معركة سباق التسلح: فبالرغم من أن الاقتصاد الاميركي هو أضخم بما لا يقاس من الاقتصاد الروسي، والميزانية الحربية الاميركية تزيد اضعافًا عن الميزانية الحربية الروسية، فإن الصناعة الحربية الروسية استطاعت انتاج أسلحة صاروخية وجوية وبحرية وميدانية، نووية، تتفوق نوعيًا، وتتقدم عشرات السنين، على الأسلحة الأميركية. ويعترف الخبراء العسكريون الأميركيون أنفسهم أنه في حال قيام مواجهة حربية شاملة، فإن المصير المحتوم لأميركا سيتقرر في الساعة الأولى من الحرب. وهذا ما يدفع القيادة الاميركية، الترامبية وما قبلها و"ما بعدها" الى "التعقل!" وصرف النظر عن احتمال المواجهة الحربية الشاملة مع روسيا، بالرغم من كل اشكال العداء الشديد الذي تكنه أميركا لروسيا دولة وشعبا.
ـ2ـ المزاحمة الاقتصادية: رغم أن الصين خرجت من الحرب العالمية الثانية منهكة ومدمرة وشبه جائعة؛ وأن أميركا خرجت من الحرب كأغنى دولة في العالم؛ وبالرغم من أن الدولة الاميركية تنهب جميع دول وشعوب العالم بواسطة النظام المالي العالمي الدولاري والهيمنة الاميركية على الشبكات العالمية للتجارة والمواصلات؛ فإن الاقتصاد الصيني استطاع في العقود الأخيرة أن يتقدم بخطى حثيثة لاحتلال مركز أضخم اقتصاد عالمي، ويصبح قادرا على منافسة الاقتصاد الاميركي، لا سيما ان الصين تقدم نموذجا تعاونيا مع الشركاء يهدف الى افادة الجميع، في حين ان الاقتصاد الاميركي يقدم نموذجا وحيد الجانب، يضر بجميع "الشركاء" ويقوم على نهبهم وابتزازهم.
ـ3ـ المعركة الجيوسياسية مع ايران: بعد ان عجزت القيادة الاميركية عن هزيمة الثورة الايرانية، فإنها ألقت بكل وزنها وامكانياتها لأجل فرض عزل تام للدولة الايرانية عن منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الاستثنائية عالميًا، على جميع الأصعدة. ولكن الذي حدث على أرض الواقع هو العكس تمامًا. وفي غضون الأربعين سنة الماضية، تحولت ايران الى قوة جيوستراتيجية اقليمية ودولية جبارة، وقاعدة رئيسية كبرى للمقاومة ضد الامبريالية والصهيونية العالمية، بالتعاون مع روسيا والصين. والمسألة المطروحة على جدول البحث الآن ليست مسألة "عزل ايران عن منطقة الشرق الاوسط"، بل مسألة "اخراج اميركا من منطقة غربي اسيا كلها". والقيادة الاميركية اليوم تستجدي التفاوض مع ايران، لأجل تنظيم "خروج اميركي مشروط ومتفق عليه" من المنطقة. ولكن القيادة الثورية الايرانية الحكيمة والصادقة ترفض اعطاء القيادة الامبريالية الاميركية هذا "الامتياز". وكل الأحداث الجارية تشير الى أن أميركا ستضطر مرغمة للخروج من المنطقة، تاركة الأنظمة العربية العميلة و"اسرائيل" لمصيرها المحتوم بمواجهة الشعبين الفلسطيني واللبناني وجميع شعوب المنطقة التي تتوق الى التحرر النهائي من الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية.
ان هذه الهزائم الكبرى الثلاث للامبريالية الاميركية، على الساحة الدولية، تدفع الوحش الامبريالي الاميركي، بيهوده ودولاراته وجيوشه ومخابراته وابواقه الديماغوجية ومافياته، لأن ينكفئ مرغما الى الداخل الاميركي، ويعض نفسه بنفسه، وينفجر من داخله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل ـ
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024