آراء وتحليلات
شركة الحديد والصلب المصرية: صرح من إرادة.. هوى
أحمد فؤاد
عام 1954، وسط صراع مصري لتوقيع اتفاقية تضمن جلاء المحتل البريطاني عن قلب البلد، يقوده شاب آمن بالوحدة العربية، وتشربتها روحه، أراد إقامة صرح صناعي قادر على مغازلة -واستنهاض- خيال أمته من المحيط إلى الخليج، كانت شركة الحديد والصلب المصرية بحلوان.
كانت صناعة الحديد هي عماد كل نهضة قامت حتى هذا الوقت، وكان امتلاك صناعة وطنية ثقيلة سبيلًا بقدر ما هو معركة بذاتها، لبلد عاش لعقود مزرعة لمصانع قطن لانكستر البريطانية.
بإلهام الرغبة، ودقة التخطيط، وقوة الإرادة الوطنية والعربية، خرجت المستعمرة السابقة إلى العالم في صورة فاعل، قادر على الحركة والتحدي، نثرت إلهام تجربتها على كل العالم الثالث وإفريقيا والدول العربية، وانفرط عقد الاستعمار الغربي الكئيب تباعًا، وكانت صروح الصناعة الوطنية تعلو بقدر ما ترتفع هامة الفدائي، فوق جبال الانتصار والإنجاز.
قبل سويعات، قرر النظام المصري أن الوقت حان لتشييع جنازة كيان جديد من زمن الشرف المصري إلى مثواه الأخير، إلى مدفن الخصخصة الكئيب، هدية جديدة لعدو الخارج وضباع الداخل، هدية بلا ثمن سوى رضا السيد المشغل الخارجي.
أعلن النظام، رسميًا، بدء تصفية الشركة العامة الأضخم بحجة خسائرها، التي بلغت حسب بياناتهم الرسمية نحو 9 مليارات جنيه، وهو مبلغ تافه إذا ما قورن بما تمتلكه الشركة العملاقة من مناجم حديد خاصة بها، وخط سكك حديدية، ومصنع ضخم به 4 أفران لصهر الحديد، كانت تعمل على مدار الساعة في خدمة البلد وأهلها وناسها.
البيان الرسمي لتصفية الشركة يضيف الكثير من خل الوجع إلى الجرح الوطني النازف. قرر النظام تصفية الشركة تمامًا، أي إنهاء وجودها، جريمة الخصخصة وبيع صروح القطاع العام الإنتاجية الضخمة بأبخس الأسعار تبدو هنا رحيمة للغاية، مقارنة بالقتل العمد للشركة مع سبق الإصرار والتخسير.
حسين: دلالات تفوق الاقتصاد
أكد السياسي المصري، القيادي بحركة كفاية، حسن حسين، أن دلالة تصفية مصنع الحديد والصلب تتجاوز البعد الاقتصادي والمالي كثيرا، متابعًا: "هذا المصنع تحديدًا يرمز لمرحلة نضال سياسي جسد الإرادة الشعبية في مواجهة ومقاومة الرأسمالية العالمية".
أضاف حسين، في تصريحات خاصة لـ "العهد": "أن الصرح الشامخ ظل رمزا لتحدي وبهاء الحقبة الناصرية، ومن ثم، يأتي التخلص منه في إطار صراع تاريخي لم ينته بعد بين الانتماء لمرحلة النهضة القومية ومحاولات إلحاق الوطن العربي بكل مكوناته إلى النظام الرأسمالي العالمي".
وختم بالقول: "من هنا فقط يمكن فهم الدلالة السياسية وراء قرار التصفية".
حكايات من دفتر الدم والعرق
وللشركة المصرية الكبرى حكايتها التي تقترن بثورة يوليو وزعيمها، روت على مر السنوات اختلاط عرق العمال بدماء الشهداء في كل حروب مصر الحديثة.
في عام 1954، وضع حجر أساس الشركة، وعرضت أسهمها على الشعب للاكتتاب العام بسعر بلغ جنيهين حينذاك، وبمدخرات المصريين قام المصنع العملاق على أكتاف أبنائهم، كأول مصنع متكامل لإنتاج الصلب في المنطقة العربية.
وقبل مضي عامين على بداية العمل بها، وقع العدوان الثلاثي، لكن العمل لم يتوقف على الإطلاق، وفي العام 1958 تم افتتاح الشركة رسميًا، بوجود فرنين لصهر الحديد من صناعة ألمانيا الشرقية –وقتها- ثم توسعت مع زيادة حركة البناء والتنمية، ولوقف الاعتماد على الحديد المستورد إلى أن بلغ عدد أفرانها 4، ووصل إنتاجها في نهاية السبعينيات إلى 1.5 مليون طن من الحديد.
ويتبع مصنع الحديد والصلب منطقة المناجم التي يستخرج منها خام الحديد، في محافظة أسوان أقصى جنوب مصر، والواحات بالغرب، كما يربطها خطوط سكك حديدية بالمناجم وميناء الإسكندرية لاستيراد الفحم اللازم للأفران.
النجار.. حلول كثيرة
كان لا بد للاقتصاد من كلمة، في تصفية نشاط هائل مثل شركة الحديد والصلب. الدكتور أحمد السيد النجار الباحث الاقتصادي الرصين، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام السابق، كتب عبر موقع "فيسبوك"، عقب إعلان قرار تصفية الشركة، عارضًا حزمة متكاملة من الحلول لمنع الجريمة التي تجري: "كانت الشركة رافعة جبارة في نهضة مصر لسنوات طويلة، وقولا واحدا فإن تصفية هذه الشركة بدلا من إصلاحها هي كارثة بكل المعايير.. من الممكن إعادة هيكلة واستغلال أصول الشركة في الغرض الذي تأسست من أجله وفي أغراض أخرى، من الممكن استخدام جزء من الأرض في بناء مشروع إسكان متوسط وشعبي ومدرسة محترمة ومتعددة المراحل ومتنوعة ومركز للتدريب المهني ومستشفى خاص ومركز تجاري لعرض منتجات القطاع العام التي يقتلها التجاهل الإعلامي، وعرض منتجات القطاع الخاص أيضا ومدينة ترفيهية ومطاعم. كان هذا الاستغلال الجزئي للأرض سيدر دخلا هائلا على الشركة من مقدمات حجز الوحدات السكنية وحدها، ومن عائد كل تلك المشروعات يتم تحديث الشركة على أعلى مستوى في جزء من الأرض في نفس الموقع أو في أرض عامة مجانية في موقع أبعد قليلا".
ويؤكد أن "هذه التصفية هي في التحليل الأخير تدمير لأصل عام لصالح الشركات الخاصة والأجنبية مثلما كان يحدث في عصر مبارك، وإلقاء لآلاف العمال للبطالة تحت أي مسمى. لكن طريق الإصلاح المقترح من الصعب على وزير متيم بالقطاع الخاص ولا يهوى القطاع العام أن يسلكه، وكان الأمر يحتاج لوزير يؤمن بدور القطاع العام ويدافع عن حقه في ظروف عمل عادلة مشابهة لتلك التي يحظى بها الآخرون، ويعي ما فعله هذا القطاع لهذه الأمة العظيمة حينما حمل كل العبء في تمويل التطوير والتحديث والتشغيل والأعباء الاجتماعية وتمويل مواجهة مصر للكيان الصهيوني وإعادة بناء الجيش وتمويل المجهود الحربي بعد كارثة يونيو 1967 مما جعله السند الرئيسي لمصر في أنبل حروبها (حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر)".
وأخيرًا..
فإن تعدد وتوافق الصدف، لا يجعلها بالتأكيد صدفًا إلا لمن تعامى أو تغابى. تصفية الشركة العظيمة والتي أثرت الاقتصاد المصري على مدى "67" عامًا ليس صدفة، وقبل سويعات من ذكرى ميلاد الزعيم العربي المقاوم الراحل جمال عبد الناصر، في 15 يناير، ليس صدفة أخرى، وتوقيع اتفاق التعاون في مجال الغاز الطبيعي، العام الماضي، مع الكيان الصهيوني في التاريخ ذاته، لا يجعل من كل الحوادث صدفًا غير سعيدة.
تاريخ الحادي عشر من يناير، سيبقى في الذاكرة الجمعية للمصريين تاريخًا مشينًا، أعطى فيه من لا يملك لمن لا يستحق، منح النظام رجال أعماله عرق ودم سنوات الجمر والبناء المصري الكبير، سنوات التحدي والشرف.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024