آراء وتحليلات
ترامب سقط .. أميركا على المحك (أسئلة وأجوبة)
علي عبادي
ربما كان هجوم أنصار الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الكونغرس يوم 6 كانون الثاني/ يناير آخر خرطوشة بيده في سلسلة محاولاته المستميتة للبقاء في الحكم. لكنها كانت أيضاً مؤشراً الى خطورة التحدي الذي يواجه النظام الأميركي من داخله في ظل الإستقطابات الحادة التي تجري منذ سنوات طويلة، وغذّاها ترامب منذ وصوله الى السلطة في بداية عام 2017.
من الخطأ نسبة كل هذا الإستقطاب الى شخص واحد؛ ترامب كان الشخص الأكثر فجاجة في التعبير عن توترات النظام. قبـْـله، تصاعد مناخ الإنقسام مع الحديث لأول مرة عن تزوير خلال المعركة الانتخابية بين ألبرت غور وجورج بوش الإبن عام 2000 والتي حُسمت بعد معركة حزبية وقضائية لم تدم طويلاً. وبعدها، فجّرت الإستقطابات خلال ولاية باراك أوباما دفائن عنصرية وحزبية متشددة حملت ترامب لاحقاً الى السلطة. فكان وصول الرئيس الأشقر رد فعل على حكم أول رجل أسود، كما رأى العديد من المحللين.
لكن ترامب، الآتي من خارج مؤسسة الحزب الجمهوري الهرِم، بالغَ في استخدام النزعات العنصرية وتوتير الأجواء السياسية. مع ذلك، وفّر له الحزب الجمهوري – برغم كل خطاياه- الحماية عند إجراء محاكمة غير مكتملة بحقه أمام مجلس الشيوخ في 5 شباط/ فبراير 2020. وكانت النتيجة في ما بعد أن سوء اداء ترامب الإقتصادي والصحي في أزمة كورونا وكثرة الشدّ في خطابه السياسي أدّيا الى انفلات الحبل من بين يديه.
قد يرى بعضهم أن ما جرى نقطة قوة للنظام لأنه استطاع ولو متأخراً وقف تمادي ترامب. لكن ذلك تم بثمن باهظ بسبب تواطؤ النخبة السياسية معه منذ البداية، ويمكن الإفتراض بأنها كانت ستواصل مهمة التواطؤ هذه لو ان ترامب أحرز نجاحاً انتخابياً واضحاً، إعتماداً على نجاحاته الإقتصادية ما قبل هبوب فيروس كورونا.
ومن المفيد التذكر بأن تحرك النخبة السياسية في وجه ترامب يأتي في النزع الأخير من ولايته بعد سقوطه المدوي. ولا يمكن في أي حال مقارنة اقتحام مقر الكونغرس بجرائم إدارة ترامب في حق الشعوب الأخرى، لكن النخبة الاميركية شعرت بأن الخطر أخذ يتهدد السقف السياسي للنظام متمثلاً بمحاولة هدم لعبة المداورة على السلطة، ولهذا تحركت.
نحاول هنا الإجابة على 4 أسئلة تثيرها حادثة اقتحام مبنى الكونغرس:
1ـ لماذا كانت حادثة اقتحام مبنى الكزنغرس مهمة وذات رمزية الى هذا الحد؟
مثّلت عملية الإقتحام تجسيداً للمواجهة بين ما هو مقبول وما هو غير مقبول في قواعد اللعبة السياسية الأميركية. نعرف أن ترامب خسر في التصويت الشعبي في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر مع إعلان نتائج الانتخابات، وخسر قضائياً بعد الطعون القضائية العديدة التي تقدم بها، وخسر في المجمع الانتخابي في تصويت 14 كانون الاول/ ديسمبر. ونتيجة لهذا المسار، خسر تأييد قيادة الحزب الجمهوري مع تقديم زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل التهنئة لجو بايدن الشهر الماضي. ولهذا، إعتُبر تجييش ترامب مؤيديه للقدوم الى واشنطن في 6 الجاري محاولة للإستقواء بالشارع ضد المؤسسات، وتحديداً ضد الكونغرس الذي كان يلتئم للمصادقة على نتائج الانتخابات.
لم يعد في وسع الحزب الجمهوري المضي في تغطية ترامب، وهذا ما أغاظه الى حد انه اعتبرهم جبناء ويفتقدون لإرادة القتال. وجاءت عملية اقتحام المجلس لتؤشر الى الإفتراق بين منطقين: منطق النظام الأميركي الحزبي التقليدي، ومنطق الشارع. وأصبح قادة الحزب الجمهوري يدركون أن الجنين الذي نبت في أحشاء قاعدة الحزب طوال السنوات الاربع الماضية تحوَّل وحشاً تصعبُ السيطرة عليه، وآنَ وقت التخلي عنه، أولاً بهدف الحفاظ على وحدة الحزب وسطوته بعدما قادته نوازع ترامب في الفترة الماضية، وثانياً من أجل الحفاظ على هيكل النظام السياسي القائم الذي بدأ يتداعى بفعل مناخ الإستقطاب الذي يرعاه ترامب عبر علاقته المباشرة مع جمهوره العصبوي من دون المرور بقيادة الحزب.
2ـ هل سيُوقف إنهاء التمرد على الكونغرس حالة الإعتراض لدى مناصري ترامب؟
كل ما جرى حتى الآن لا يخفي حقيقة ان الجمهوريين منقسمون في ولاءاتهم واتجاهاتهم بين ثلاث فئات:
فئة تقليدية تريد الحفاظ على حدود اللعبة السياسية وحدود الصراع مع الحزب الديمقراطي والتيار الليبرالي من أجل الحفاظ على وحدة النظام ووحدة البلاد.
وفئة تتماهى مع القاعدة الشعبية الترامبية بهدف استغلالها في الحسابات الإنتخابية في الولايات، لاسيما في أوقات انتخابات مجلس النواب والشيوخ. وهذه الفئة بقيادة السناتور تيد كروز أرادت وقف المصادقة على تثبيت فوز بايدن بدعوى استكمال التحقيق في المخالفات الانتخابية.
وفئة تذهب بعيداً في رفض النتائج وما زالت مقتنعة بأن هناك تلاعباً جرى من خلال الإقتراع غير المسبوق بالبريد، حيث تحولت الى طريقة الإقتراع الرئيسة في وقت كان يُفترض أنها ثانوية. لقد رسّخ ترامب فكرة ان نتائج الانتخابات سُرقت، وبات شعار "أوقفوا السرقة Stop the Steal" محور حراك اليمين الاميركي المتشدد.
في هذا الجو، أظهر استطلاع أجرته شركة YouGov المختصة بأبحاث السوق أن نحو 45 بالمئة من أنصار الحزب الجمهوري يؤيدون مثيري الشغب الذين اقتحموا مبنى الكونغرس. وكان من المفاجئ أيضا ان 2 بالمئة من أنصار الحزب الديمقراطي أيدوا ذلك أيضاً. وهذا الإتجاه يحمل في طياته مخاطر عنف قد تتجدد في أي وقت.
3ـ هل انتهى خطر قيام ترامب بأية حماقات جديدة؟
من دون شك، أصيبت مكانة ترامب بضرر بالغ بعد حادثة الكونغرس الى حدٍ دفعه لأول مرة الى التعهد بتسليم السلطة في 20 الجاري، وأصبح هناك شك في إمكان أن يلتزم مرؤوسوه بتنفيذ أية أوامر مثيرة للجدل قد يصدرها إليهم. لكن الرجل ما زال خطيراً، ولديه مناصرون داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية والتنفيذية يمكن أن يتحركوا بإيعاز منه أو بمبادرة منهم. كما يمكن أن يتذرع بأية أحداث للقيام بفوضى أو أعمال إنقلابية في الداخل أو إرهابية الخارج.
وهناك أيضاً الكيان الصهيوني الذي يتربص ويرى فرصة ضيقة أمامه لقلب معادلة التوازن الإستراتيجي في المنطقة قبل رحيل نصيره الذي لم يُولِ "اهتماماً بالغاً لمصالح اسرائيل اكثر من كل الرؤساء الاميركيين فحسب، بل وقدّم مصالح اسرائيل على مصالح أميركا في بعض الأحيان"، بحسب تعبير رئيس لجنة أيباك مورت فريدمان في أواخر 2018. والفرصة قد تتمثل بالقيام بأعمال خطرة تجرّ الولايات المتحدة الى قتال ضد ايران او حلفائها.
ومن هنا، قد نلاحظ أن الديمقراطيين في مجلس النواب بدأوا تحركاً لإجهاض أية محاولة من ترامب للقيام بخطوات انتحارية ربما يهدف منها لقطع الطريق على تسلم بايدن السلطة في الداخل أو تعقيد مهمته مستقبلاً في التعامل مع ملف ايران.
4ـ ما هي الآثار المحتملة مستقبلاً لاقتحام مبنى الكونغرس؟
سيستغل الديمقراطيون الحادثة للمضي في عزل ترامب ومحاكمته، استئنافاً للخطوة التي قاموا بها في فبراير/ شباط 2020 وأجهضها الجمهوريون. الآن لدى الديمقراطيين زخم جديد يتوفر بعد انتخاب رئيس من صفوفهم وبعد سيطرتهم على مجلسي النواب والشيوخ، وسيستفيدون أيضاً من سجل ترامب الحافل وخطأ مناصريه الأخير. ويحتاج الديمقراطيون الى هذا التحرك وقائياً لمنع ترامب من الإقدام على تصرفات طائشة في أيامه الأخيرة في الحكم، وأيضاً لتسديد ضربة معنوية قاضية الى فترة حكمه التي يريدون وصمها بالسواد القاتم. وهم يرون أن الرئيس الحالي تسبَّبَ بشرخ وطني يصعب جبره وأضعف مكانة أميركا في الخارج.
ويمارس الديمقراطيون في مجلس النواب ضغوطاً على نائب الرئيس مايك بنس (من خلال التلويح بمحاكمة ترامب خلال أيام) لأجل إقالة ترامب بموجب التعديل الدستوري الـ 25 الذي يتيح خيار إقالة الحكومة للرئيس في حالة عجزه عن القيام بمهامه، ليصبح بنس بموجب ذلك القائم بأعمال الرئيس. وهذا الخيار يسمح بانتقال سلس للسلطة بما ان ترامب أعلن انه لن يحضر تنصيب بايدن في 20 الجاري، وهذه سابقة في تاريخ عمليات التنصيب. كما ان هذا الخيار يمثل خطوة في اتجاه إعادة ترميم صورة وحدة النظام بثنائيته الحزبية المعروفة، كما يمكن أن يشكل إغراء لنائب الرئيس لدخول التاريخ السياسي الاميركي باعتباره اول نائب رئيس يقوم بهذه الخطوة، وليحجز دوراً رئاسياً له في مدى زمني قريب.
لكن فريقاً من الجمهوريين يعارض هذا التوجه تحاشياً لأن يصبح سُنّة تسمح لكل نائب رئيس في المستقبل بالإنقلاب على رئيسه.
بناء على ما تقدم، من المشكوك فيه أن يكمل ترامب ولايته الى آخر يوم. لكن الأكيد أنه انتهى سياسياً، وانتهت معه كل المراهنات في الداخل والخارج على نجاعة نهجه في تغيير وجه أميركا والعالم. فقد ركبت الحكومة الاميركية في عهده أعلى ما في خيلها ولم تتمكن من "إعادة أميركا عظيمة مرة أخرى" أو تقديم فائدة كبرى لشعاره الآخر "أميركا أولاً". ومن المفترض أن يقدم بايدن تنازلات وينهمك في إدارة الوضع الداخلي لكي يتمكن من إصلاح بعض ما خرّبه ترامب.
كل هذا من شأنه أن يضيف تعقيدات الى المشهد الاميركي ويمكن في لحظات معينة أن يرفع منسوب التوتر لدى ترامب وفريقه الخاسر.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024