آراء وتحليلات
الأزمة اللبنانية بين تشوهات النظام السياسي والتدخلات الخارجية
د. علي مطر
يمكن توصيف طبيعة الأزمة التي نمر بها اليوم، بالأزمة المركبة، أي معقدة ومتنوعة المستويات، فهي أزمة بنيوية ليست وليدة السنوات الراهنة، على الرغم من وجود ثغرات كبيرة أدت إلى تفاقمها، وهنا تكمن أهمية دراسة مظاهر الأزمة البنيوية في لبنان، مع الأخذ في الاعتبار أننا لم نشكل نظاماً سياسياً قادراً على مواجهة التحديات الكبرى، باستثناء تجارب ناجحة قدمتها المقاومة على صعيد مواجهة العدو وتحرير الوطن، إلا أننا حتى الآن لم نذهب نحو البحث عن النظام السياسي العقلاني، وتأسيس نموذج بديل لما هو قائم.
وما يحصل في لبنان لا ينفك كأزمة، عن وجود أزمة بنيوية شاملة في بنية الأنظمة السياسية العربية على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية كافة، وطريقة التعامل مع العالم الخارجي خاصة من خلال الارتهان في الكثير من الخيارات السياسية والاقتصادية للغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية ومن ثم التدخلات الخارجية الأوروبية من قبل فرنسا وبريطانيا والتدخلات الخليجية التي باتت معروفة في نظامنا السياسي.
لن أدخل في البحث عن مظاهر الأزمة بشكلها الكامل، وذلك لكي يتسنى لي الحديث عما نحن فيه اليوم من أزمة بين المواطن اللبناني والسلطة الحاكمة، حيث توجد أزمة ثقة كبيرة بين الشعب والدولة، أدت بنتيجتها إلى فقدان الشعب للأمل بالإصلاح. فالدولة على مدار ٣٠ عاماً أوجدت من خلال سياساتها الخاطئة والفساد المستشري والجشع، هذا الشرخ مع شعبها، وراهنت دائمًا على سكوتها، طبعاً يتحمل الشعب جزءاً من الأزمة من خلال السكوت على الممارسات لا بل المشاركة في كثير منها، إلا أن أسس بناء نظامنا السياسي لم تكن وفق معايير صحيحة تشكل الدولة التي ينشدها المواطنون، فإن النظام اللبناني حير رجال السياسة والقانون في تحديد طبيعته، إذ لم يوفق أحد بالعثور على مثيل له في معاجم القانون الدستوري أو الأنظمة السياسية المطبقة في الدول الحديثة.
ما هي المشكلة الأساسية؟
تكمن المشكلة الأساسية في النظام اللبناني أنه ولد على شاكلة الوطن لكن لم يكن ليرق إلى المواطنية، حيث أنه أتى نتيجة بناءات الاستعمار العثماني ومن ثم الانتداب الفرنسي، إذ جرى الضم والفرز حتى ولد لبنان الكبير مما كان يسمى بلاد الشام، اختلف لبنان عن غيره من دول العالم، بنظام طائفي زرعت بذوره قبل أكثر من قرن من الزمن على ولادته تقريبا، مع ما سمي نظام القائم مقاميتين (عام 1840)، ثم المتصرفية (عام 1861)، باتفاق تركي-أوروبي، وبعد استقلاله عن الانتداب الفرنسي ولدت دولة لبنان الكبير وتم الإعتراف بالشعب اللبناني كمجموعة من الطوائف (م. 24 من دستور عام 1926)، ومن ثم منح نظاما يوزع مجلس النواب والمناصب والوظائف الإدارية على هذا الأساس، توج ذلك باتفاق شفهي بين رئيس وزرائه السني ورئيس جمهوريته الماروني، بما عرف بميثاق العام 1943، حيث وزعت السلطات السياسية الثلاث بين طوائفه الأكبر، رئيس جمهورية ماروني بسلطات واسعة، ورئيس وزراء سني متفاهم معه، ورئيس مجلس نواب شيعي يدير جلسات المجلس.
ولعب بشارة الخوري أول رئيس للجمهورية اللبنانية ورياض الصلح أول رئيس حكومة لبنانية تشكلت بعد استقلال البلاد عن فرنسا عام 1943، دورا مهما في الوصول إلى هذا الاتفاق غير المكتوب. وعن مضمونه، قال بشارة الخوري "وما الميثاق الوطني سوى اتفاق العنصرين اللذين يتألف منهما الوطن اللبناني على انصهار نزعاتهما في عقيدة واحدة: استقلال لبنان التام الناجز من دون الالتجاء إلى حماية من الغرب، ولا إلى وحدة أو اتحاد مع الشرق".
لكن في الحقيقة تم إعطاء سلطة رسمية للطوائف الثلاث الكبرى وما تضم تحت أجنحتها من مذاهب، وذلك بموجب مراسيم صدرت عن المندوب الفرنسي. لقد تم تكريس نوع من الإستقلالية للطوائف اللبنانية، وذلك بفعل مجموعة من المراسيم صدرت زمن الإنتداب، أي بين عامي 1936 و 1938، منحت بموجبها الطوائف اللبنانية صلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية خاصة بكل منها، تمنح كل طائفة أو حتى كل مذهب إدارة شؤون رعاياه على مستوى الأحوال الشخصية.
وقد تم تسخير مبدأ النظام العام لمصلحة الطوائف، حيث إن "شرط عدم الإخلال بالنظام العام" في المواد التي تتكلم عن امتيازات الطوائف، صبّ كله في صالح النظام الطائفي بل التفرقة الطائفية، ومن جهة ثانية لعدم الوقوع في الفتنة، فقد نشأ عن ذلك تمتين الوضعية الطائفية في لبنان على صعيد التشريع والتطبيق، بما شكل منافسة وتهميشا جديا لشخصية الدولة وصلاحياتها المتعارف عليها في القانون، وجعل مبدأ عدم الإخلال بالنظام العام في خدمة الطوائف بدل أن يكون في خدمة الوطن والمواطنين.
إضافة إلى ما تقدم، تم استغلال مبدأ فصل السلطات وتوازنها وتعاونها ليس لخدمة النظام الديموقراطي، بل لخدمة المصالح السياسية-الطائفية، فمعلوم أن كل من السلطتين التنفيذية والتشريعية قائمتان على أساس طائفي في أعلى الهرم وفي التركيبة. انعكست التوازنات الطائفية تداخلات على مستوى السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية.
الحرب والتدخل الخارجي جزء كبير من الأزمة
لم تنته الأمور في تشكل النظام عند ما قام به الفرنسيون، بل شهد لبنان حربا أهلية طاحنة لمدة خمسة عشر عاما من 1975 إلى 1990 قتل فيها الآلاف. كما احتل الكيان الاسرائيل لبنان خلال هذه الفترة، إذ وصلت قوات الاحتلال الاسرائيلية إلى العاصمة اللبنانية بيروت، كل ذلك أدى إلى وضع اتفاق الطائف الذي رعاه المجتمع الدولي والموقع في مدينة الطائف السعودية 1990 نهاية للحرب الاهلية اللبنانية وتم تعديل الدستور اللبناني بناء على هذا الاتفاق. ورغم أن الدستور اللبناني ينص على أن لبنان بلد جمهوري ديمقراطي برلماني لكن البنية الطائفية للنظام السياسي في لبنان جعلت من شبه المستحيل اتخاذ أي قرارات كبرى دون توافق جميع الفرقاء السياسيين الموزعين على أساس طائفي.
التدخل الخارجي لم ينته، حيث التدخلات كانت مستفحلة دائما خاصة من قبل الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تترك لبنان يعيش حالة الاستقرار ولا الاستقلال السياسي، حيث تفاعلت تدخلاته حتى عام 2005، ومن ثم مع العدوان الإسرائيلي عام 2006، وصولاً إلى الأزمة الخانقة التي يمر به اللبنانيون منذ عام 2019 نتيجة الضغط الأميركي الذي يسعى إلى ايصال لبنان إلى أكبر انهيار في تاريخه، كما أن التدخل الخارجي لا يقتصر على العمل الأميركي السافر، بل يلحظ تدخلات خليجية كبيرة تمنع تشكيل حكومة، كما تمنع ايصال مساعدات إلى لبنان، فضلاً عن التدخل البريطاني في لبنان، منذ احداث 17 تشرين الأول، حيث كشفت وثائق سرية أن حكومة بريطانيا عرضت المساعدة على السلطات اللبنانية فقط لخداعها لاحقًا بقبول الجواسيس البريطانيين في مؤسساتها الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني والخدمات الخاصة والقوات المسلحة ووسائل الإعلام، مما يسمح لهؤلاء الجواسيس بالعمل مع الشباب ومنظمات المجتمع المدني. وعندما أدرك اللبنانيون أنهم فقدوا السيطرة على بلدهم كان قد فات الأوان.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024