آراء وتحليلات
بايدن وإيران في ظل خليج إسرائيلي.. المعادلة المستحيلة
محمد أ. الحسيني
لم يكن إسقاط تمثال "ألبرت بايك" وإحراقه في 19 حزيران 2020 مجرّد ردّة فعل غاضبة محصورة بالاحتجاج على مقتل المواطن الأسود "جورج فلويد" خنقاً تحت أقدام أفراد الشرطة الأمريكية، فمقتل فلويد بهذه الطريقة لم يكن الأول، وسبقته وتلته جرائم قتل أكثر وحشية بالشكل والمضمون؛ وليس "بايك" كغيره من الرموز الأساسية في التاريخ الأمريكي الأسود القائم على سياسات الاضطهاد والتفرقة العنصرية والإبادة العرقية - الذين تم إسقاط تماثيلهم أيضاً - فهو معروف بأنه واحد من كبار كهنة الماسونية، والضابط العسكري الوحيد الذي لديه تمثال في الساحة العامة بواشنطن، ما يمنحه قيمة أعلى من الشخصيات الأخرى، وهكذا قيمة إسقاط تمثاله.
بايدن خيار الدولة العميقة
قال محلّلون إن ما جرى في الشارع الأمريكي هو واحدة من نتائج سياسة دونالد ترامب التي أفرزت انقساماً عمودياً في طبقات المجتمع الهجين، وجاءت ترجمته في واحدة من أكثر الانتخابات حساسية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أظهرت من جهة أخرى شمولية الحركة الشعبية في اختيار الرئيس، ومردّ ذلك إلى مجموعة من العوامل أهمها النزعة العنصرية التي اجتهد دونالد ترامب لإذكائها في الشارع الأمريكي، على مستوى اللون والانتماء العرقي والاختلاف الطبقي والاجتماعي؛ وفي النتيجة فرضت "الدولة العميقة" نفسها لتكرّس جو بايدن رئيساً لن يتأخر في ترميم صورة أمريكا، بعدما أضرّت بها سياسة سلفه كثيراً، وسوف يبادر إلى إعادة العالم إلى الحاضنة الأمريكية من جديد، ويعيد النظر بمعظم الاتفاقات التي سبق أن ألغاها أو انسحب ترامب منها ولا سيّما مع أوروبا وإيران.
وفيما يترقّب العالم تسلم بايدن "الحكيم" دفّة القيادة، يندفع حكّام العرب و"شراشيبهم" من الدول التي تعتاش على فتات الموائد النفطية، إلى مزيد من الانبطاح في سياق التطبيع والاستسلام الطوعي أمام "إسرائيل"، وما يجري ليس نتيجة بقدر ما هو تطبيق لأجندة معدّة مسبقاً ومرسومة الأهداف والوقائع، وما يجري من ضوضاء وغبار ليس سوى لزوم الإخراج الهوليوودي لمسرحية التسوية الشاملة في المنطقة، وصولاً إلى القضاء على آخر فصول تصفية القضية الفلسطينية والإطباق على إيران ومحور المقاومة، وليست خطوة المغرب في الانضمام إلى محور التطبيع مستغربة بل متوقّعة جداً، نظراً لما يجمع بين الرباط وتل أبيب من تاريخ حافل بالعلاقات التي لا تخفى على أحد.
تداول الفشل الأمريكي
قد يعلّق قارئ لهذه السطور بأنها تكرار لرومانسية الأدبيات السياسية التي تجترّ مصطلحات المؤامرة، في استحضار عقيم لمقالات الستينيات والسبعينيات فيما تمعن أمريكا و"إسرائيل" في اجتياح المنطقة بلا رادع، وقد يكون هذا التعليق صحيحاً في توصيف الفعل الأمريكي – الصهيوني، ولكنه يغفل عن حقيقتين أساسيتين لا بد من الالتفات إليهما في سياق فهم التطوّرات السياسية والاستراتيجية في المنطقة والعالم:
الحقيقة الأولى: إن ما جرى في الولايات المتحدة ليس جديداً، فقد سبق أن أعلن الجمهوري جورج بوش الابن حربه "الصليبية" في مقابل تمرّد صدام حسين وفساطيط أسامة بن لادن، وأطلق شعار القوة من أجل نشر الديمقراطية، وقسّم العالم بين حرّ ومارق، وشنّ حروباً أشعلت المنطقة ودفعت بعرب الخليج إلى الهرولة نحو تبرير الحياد والخروج من تهمة "الإرهاب الإسلامي" ظاهراً، إلا أنه كان في الواقع تدجيناً لشعوبهم باتجاه فرض الالتحاق بالسيّد الأمريكي خوفاً من العقاب من جهة، وتخويفاً من الجار الإيراني من جهة ثانية، أما النفط فكان في قبضة الأمريكيين على كل حال و"إسرائيل" ماضية في بناء أطر الاختراق، وجاءت المحطة الثانية من الاستيعاب والتدجين في الإتيان بباراك أوباما الديمقراطي الأسود المسلم والمسالم رئيساً ليعيد تلميع صورة أمريكا.
كانت القاهرة المحطة الرئيسية لأوباما في العام 2009، وهلّل العرب استعراضياً له ولوعوده البيضاء، إلا أن التدخّل العسكري في العالم ازداد، وتوسعّت دائرة التورّط الأمريكي لتعمّ الفوضى البنّاءة في المنطقة تحت مسمّى "الربيع العربي"، وتبخّرت وعود أوباما حول السلام والدولة الفلسطينية، وجاءت سياسته حيال ما يسمّى منطقة الشرق الأوسط أسوأ من سابقيه، وها هي المعادلة تتكرّر مع ترامب الجمهوري وبايدن الديمقراطي في استنساخ واضح، ولكن مع تحقيق أهداف إضافية تتمثّل في استعجال العرب إنهاء ملف التطبيع كرمى لعيون الجنرال الأمريكي الجديد، ودفعة مقدّمة (كما حصل مع ترامب والفستق السعودي) على حساب الخلاص من عقدة المحور الإيراني وأذرعه المقاوِمة.
انتصار قوى المحور
الحقيقة الثانية: حين تم تنصيب جورج بوش الابن - وهو لا يختلف عن دونالد ترامب في رعونته وحداثة تجربته في السياسة – بدأت "الدولة العميقة" في واشنطن سياقاً اندفاعياً باتجاه حسم ملفات المنطقة، وسط تغييب الدور الأوروبي عن اللعب في الساحة الدولية، وقادت حربها بأيدٍ إسرائيلية على لبنان في تموز
عام 2006، إلى جانب حربها على العراق وأفغانستان، في إطار تعبيد الساحة وتمهيدها أمام "السلام العربي - الإسرائيلي"، وسقط مشروع "الشرق الأوسط الجديد" سقوطاً مدوّياً، وانتصر محور المقاومة وفشل مشروع الردّة العربية مرةّ جديدة كما فشل مشروع "صنّاع السلام" في شرم الشيخ في عدوان نيسان عام 1996.
لم تربح أمريكا في أفغانستان وفشلت في العراق وسقطت في لبنان، فكان لا بد من الانكفاء لتأتي بوجه جديد مع أوباما بسياسة جديدة، وأحد عناصرها تغيير الأنظمة التي ثبت عقم المراهنة عليها فكان ما يسمّى "الربيع العربي"، وصمدت إيران في وجه القلاقل الداخلية وفرضت اتفاقاً نووياً يحفظ حقوقها، وانتصرت سوريا في وجه الحرب الكونية عليها، فأعيد الإتيان بجمهوري أرعن (دونالد ترامب) بالغ في لعب دور الكاوبوي ليرهب العالم ويعزل أوروبا من جديد، ويمنح العرب، بوجوه حكامهم الجدد (محمد بن سلمان ومحمد بن زايد)، واجهة للمضي أكثر في مسيرة التطبيع، وها هو بايدن (أوباما الجديد) يتحضّر لجني الثمار، وفي خضمّ كل هذه المسارات لم تتأثر المقاومة في لبنان بل ازدادات منعة وقوة وحضوراً في الساحتين الداخلية والخارجية، لا بل أصبحت اللاعب القوي في خارطة المعادلات الكونية.
معادلة لا تسوية فيها
هاتان الحقيقتان لا تقاربان رومانسية التعبير، بل هما تعبير عن واقع لم تستطع فيه أمريكا ولا "إسرائيل" ولا عرب الردّة من التأثير في سياق تطوّرهما إلا في مستجدّ واحد كان منتظراً حصوله عاجلاً أم آجلاً، وهو إماطة اللثام عن أقنعة الخيانة العربية، وسبق أن أشار رئيس حكومة العدو بنيامين نتانياهو إلى أن "دولاً عربية كثيرة تغيّر نهجها تجاهنا، فإسرائيل التي كان ينظر إليها على أنها عدو، ينظر إليها اليوم على أنها حليفة، والنقطة التي أحدثت التغيير هي نضالنا ضد الاتفاق النووي مع إيران".. إذاً إيران هي حجر الرحى بعد أن خلط انتصار الثورة الإسلامية فيها الأوراق وقلب الطاولة على رؤوس اللاعبين، وعرقل قطار التطبيع والاستسلام، وفرضت إيران نفسها في المنطقة مؤثراً أكبر لن يجد بايدن أو غيره سبيلاً إلى تطويعه، فالمعادلة باتت بين طرفين لا تسوية فيها لطرف إلا بزوال الآخر.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024