آراء وتحليلات
موسكو وبغداد.. نحو آفاق أوسع
بغداد: عادل الجبوري
مرت العلاقات العراقية - الروسية بعد الاطاحة بنظام صدام في عام 2003 بنوع من الفتور بدا واضحًا الى حد كبير من خلال ابتعاد موسكو عن مسرح الأحداث في العراق، في الوقت الذي راحت فيه قوى دولية واقليمية عديدة تقتحمه أو تحاول اقتحامه وتوجيه مساراته والتحكم بتفاعلاته وايقاعاته بما يتوافق مع مصالحها وحساباتها الخاصة.
أكثر من سبب جعل روسيا تبتعد عن العراق، وحتى المنطقة، من بينها، انشغالها بإصلاح أوضاعها الداخلية بعد مرحلة الفوضى والضعف والارتباك التي شهدتها جراء فقدانها موقع الزعامة العالمية على خلفية انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفياتي السابق مطلع تسعينيات القرن الماضي. ومن بين أسباب الانزواء والابتعاد أيضًا، الاندفاع القوي للولايات المتحدة الأميركية نحو المنطقة، عبر سلسلة حروب ومخططات ومشاريع لازاحة أنظمة والمجيء بأخرى، كما حصل في افغانستان والعراق.
ومع تنامي شعور صناع القرار في موسكو بأهمية استعادة روسيا لأدوارها وحضورها في مختلف القضايا العالمية وعدم ترك الميدان لواشنطن وحلفائها، ومع إدراك الساسة العراقيين والكثير من النخب الفكرية والثقافية، أن التعويل الكامل أو شبه الكامل على الأخيرة من شأنه أن يلحق الكثير والمزيد من الضرر بمصالح العراق الاستراتيجية، ويجعله أمام خيارات محدودة وفرص ضئيلة.. مع هذا وذاك، راحت مسيرة العلاقات بين بغداد وموسكو تنتعش شيئًا فشيئًا في المجالات الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية. وبعد اجتياح تنظيم "داعش" الارهابي لمساحات من الجغرافيا العراقية صيف عام 2015، وتوسع وجوده في سوريا الى جانب جماعات وتنظيمات ارهابية أخرى، وتزايد تهديداته لعموم المنطقة والعالم، تعزز الحضور الروسي عبر تقديم الدعم والاسناد العسكري لكل من بغداد ودمشق، والاتجاه الى تفعيل التنسيق الاستخباراتي، من خلال تشكيل غرفة التنسيق الاستخباراتي الرباعي بين كل من العراق وايران وسوريا وروسيا أواخر شهر ايلول - سبتمبر من عام 2015.
وحين التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي في موسكو، في الحادي والعشرين من شهر ايار-مايو من عام 2015، أكد بوتين، انه "رغم الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد العالمي وقضايا المنطقة، تتطور علاقاتنا مع العراق بشكل ناجح جدا، وعلى الرغم من أن حجم التبادل التجاري ليس كبيرًا جدًا حتى الآن، إلا أنه ازداد بمقدار عشرة أضعاف خلال العامين الماضيين".
وفي مقابلة أجرتها معه وكالة "سبوتنيك" الروسية للأنباء، أكد السفير العراقي في موسكو حيدر العذاري، أنه "مما لا شك فيه أن السلاح الروسي كان أحد أسباب انتصارنا على تنظيم "داعش" الارهابي، وحتى بعض القادة العسكريين العراقيين تلقوا تدريباتهم في موسكو، وبيننا وبين روسيا علاقات عسكرية تاريخية طويلة، بما فيها العلاقات المميزة مع الملحقية العسكرية في موسكو المختصة بالجانب العسكري وتنفيذ العقود ومتابعتها"، وما يعزز ذلك القول، هو أن سلاح الجو الروسي على العكس من طيران التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الاميركية، ساهم الى حد كبير في دعم واسناد القوات العراقية خلال عمليات ضد "داعش"، بحيث سرع في الحاق الهزيمة بالأخير.
وكانت القيادة الروسية قد تحدثت بنفس المضامين، حينما زار رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي موسكو في شهر تشرين الاول-اكتوبر من عام 2012، وأبرم جملة اتفاقيات عسكرية وصفقات لتعزيز قدرات الجيش العراقي بأسلحة ومعدات روسية متطورة.
واستتباعًا لذلك، فإن الخطوات والتحركات التي شهدتها الأشهر القليلة الماضية، أشرت الى جدية الطرفين لاستثمار وتوظيف كل الامكانيات والفرص المتاحة للدفع بعلاقات البلدين الى الأمام. ولعل الزيارة التي قام بها مؤخرًا وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين لروسيا، وما تضمنته من لقاءات ومباحثات مع كبار المسؤولين الروس، أشرت الى أن الطرفين يتطلعان الى آفاق رحبة وواسعة في سياق تعزيز علاقاتهما على كل الصعد والمستويات، لا سيما في المجالات الاقتصادية والأمنية والعسكرية، حيث إن الشركات الروسية متواجدة وفاعلة في قطاع الانتاج النفطي العراقي، وكان آخر المعطيات بهذا الشأن هو ابرام اتفاق بين شركة الاستكشافات النفطية العراقية وشركة "باشنفت" الروسية يقضي بقيام الأخيرة بإجراء المسح الزلزالي الثنائي والثلاثي الأبعاد للرقعة الاستكشافية الثانية عشرة في محافظة النجف والمثنى والتنقيب عن النفط في هذه المنطقة.
وترى موسكو أن الاقتصاد يشكل المفتاح الرئيسي لتعزيز وتنمية العلاقات مع بغداد، وهي رغم الحضور الجيد لعدد من الشركات الروسية النفطية المهمة، لا سيما "لوك اويل" و"روزنفت"، و"غازبروم" تتطلع الى توسيع نطاق ذلك الحضور، مستفيدة من جملة ظروف وعوامل، أبرزها المقبولية السياسية والشعبية لها في العراق والمنطقة.
وفي هذا السياق يشير السفير الروسي في العراق، "مكسيم مكسيموف"، في حوار أجرته معه وكالة الأنباء العراقية الرسمية مطلع شهر اب-اغسطس الماضي الى "أن الشركات الروسية ترغب في مواصلة العمل ودخول سوق النفط والغاز العراقية والمساهمة في عمليات تطوير البنى التحتية"، وان بلاده "تعتزم ضخ استثمارات ضخمة بمليارات الدولارات في قطاع النفط العراقي، الذي يعاني من تراجع الاستثمارات الغربية، انطلاقا من كون العراق يعد شريكا رئيسيا بالمنطقة"، علما "ان إجمالي الاستثمارات الروسية في قطاع الطاقة بالعراق بلغ -بحسب السفير مكيسموف- ثلاثة عشر مليار دولار".
ويؤكد السفير انه "على الرغم من هبوط أسعار النفط واجتياح فيروس كورونا فإن شركات مثل "غازبروم" و"باشنفت" و"روسنفت" الروسية، تواصل المشاركة في تنفيذ مشاريع إنتاج النفط والغاز، وتقوم بإلايفاء بالتزاماتها التعاقدية".
ولعل حماس واندفاع موسكو نحو العراق، هو في الواقع جزء من الاستراتيجية الروسية لبناء علاقات ايجابية بناءة بعيدة عن العقد التاريخية وغياب الثقة، مع عموم دول المنطقة، لا سيما الكبرى والمؤثرة منها، مثل ايران وتركيا وباكستان، وحتى دول الخليج ومصر.
ويقابل الحماس والاندفاع الروسي، توجه عراقي سياسي وشعبي ضاغط، لانهاء حقبة التعويل والاعتماد والخضوع لواشنطن، والانفتاح على أطراف دولية أخرى كروسيا والصين، عبر تحالفات ومواثيق اقتصادية تساهم في اعادة بناء الاقتصاد العراقي وفق رؤى جديدة، تفضي الى اعادة اصلاح البنى التحتية، وتنويع مصادر الدخل الوطني، بتفعيل قطاعات الصناعة والزراعة والصحة والتكنولوجيا، والقضاء بأقصى قدر ممكن على البطالة من خلال الاستثمارات الأجنبية الضخمة في شتى المجالات، بعيدًا عن الاشتراطات والاملاءات السياسية.
ومما لا شك فيه أن الزيارات المرتقبة والمتوقعة لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الى موسكو وبكين، خلال الأشهر المقبلة، سيكون لها أثر غير قليل في إحداث نقلات وتحولات مهمة في مسيرة وواقع علاقات العراق مع محيطه الاقليمي والفضاء الدولي، خصوصًا اذا كانت الرؤية العراقية واضحة فيما يراد تحقيقه والوصول اليه من مخرجات وأهداف.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024