آراء وتحليلات
تلاشي الحلم الأميركي.. وهم الديمقراطية
د. علي مطر
ملفتاً كان الحدث الانتخابي في الولايات المتحدة الأميركية. بلاد الأمة التي وعدت بحلم الديمقراطية. مسارٌ طويل يبنى الكثير عليه في تفنيد الادعاءات التي عاشت عليها هذه الأمة، فوجدت اللاحرية التي تقوم على التفلت الأخلاقي والقيمي دون أن تجد الديمقراطية التي تقوم على شعار حقيقي يتجلى بحكم الشعب للشعب، في مسار يكون أصل اختيار الحاكم فيه هو الشعب دون أن يكون هناك معوقات أو معايير مزدوجة في تطبيق هذه القاعدة.
يوصف الحلم الأميركي بأنه "الروح الوطنية" التي تجسد مجموعة من "القيم" السائدة في أميركا، وأهمها "الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية وتعدد الفرص والمساواة". وتم تأويل هذا المفهوم حسب متغيرات متعددة، فبعد تحول أميركا خلال خمسينيات القرن العشرين إلى قوة سياسية واقتصادية عالمية ربطه البعض بتحقيق "السعادة" عبر النجاح المادي المتمثل في الحصول على عمل وامتلاك منزل وسيارة وتكوين أسرة. تعود جذور هذا مفهوم "الحلم الأميركي" إلى وثيقة إعلان الاستقلال الأميركية الصادرة عام 1776، والتي وردت فيها عبارات "كل البشر خلقوا متساوين"، و"كل مخلوق لديه حقوق غير قابلة للجدل"، و"الحياة والحرية والسعي وراء السعادة".
ويعتبر الأميركيون "تمثال الحرية" في نيويورك -الذي يرمز للفكر الليبرالي الحر والديمقراطية- الأيقونة التي تجسد لديهم فكرة "الحلم الأميركي". وقد شكل المفهوم إحدى الأدوات التي عملت على "دعم استقرار ووحدة الولايات المتحدة"، وساهمت دائمًا في فتح الباب لمختلف المواهب والأفكار الجديدة الوافدة على البلاد بالنمو والتطور دون تمييز، مما ساعد في تكوين خبرة أميركية متميزة في العديد من المجالات.
هذه الأمة كما تصفها صحيفة "الغارديان" البريطانية أصبحت "أمة منقسمة بشكل خطير" لتقول الصحيفة إن "الانقسام السام" أصبح قاعدة بين الأمريكيين بدل أن يكون استثناء. فيما يتحدث الأميركيون عن القلق من الانقسامات الثقافية التي يمكن أن تكون قد تجاوزت الخلاف السياسي، وأصبح ثمة معسكران عدوّان، ومسلحَان أحيانًا، وقد انقطع الحوار بينهما.
لقد كتب سايمون تيسدال مقالًا في صحيفة الغارديان البريطانية بعنوان "فوضى الانتخابات الأمريكية نعمة لأعداء الديمقراطية في جميع أنحاء العالم"، يقول فيه صدق أو لا تصدق، أن العالم لم يتوقف عن الدوران على محوره بسبب الانتخابات الأمريكية وما أعقبها من نزاعات ذاتية في أرض الحرية للجميع. ففي عصر دونالد ترامب، تنتشر النرجسية مثل الطاعون. ويضيف، كلما طال الجدل في واشنطن، زاد الضرر الجانبي الذي يلحق بسمعة أمريكا العالمية، والدول والشعوب الأقل حظًا التي تعتمد على الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين لرفع راية الديمقراطية والحرية.
كذلك تحدث عالم الاجتماع الإسباني فيسينش نافارو في صحيفة "بوبليكو" الإسبانية عن مساوئ الديمقراطية الأمريكية والأزمة الحادة التي تمرّ بها مؤسسات الحكم في الولايات المتحدة. وقال إنه بعد الحرب العالمية الثانية ونتيجة لانتصار الحلفاء، قدمت الولايات المتحدة نفسها للعالم على أنها حصن الديمقراطية الليبرالية، وقد استمرت تلك الصورة لفترة طويلة قبل أن تبدأ بفقدان بريقها. ويؤكد أن ما حدث في السنوات الأخيرة أظهر أزمة المصداقية التي تعيشها المؤسسات الأمريكية نتيجة انعدام ثقة المواطنين في النظام السياسي الديمقراطي، ووصل الأمر إلى درجة تهدد استمرار تلك المؤسسات.
وحسب تقدير الباحث السياسي الأمريكي دانييل زيبلات، مؤلف كتاب "كيف تموت الديمقراطيات" وفق ما تنقل عنه مواقع الكتروينة تعاني ثقافة الحوار في الولايات المتحدة من "انهيار طويل للاعتراف المتبادل". ومن شأن التعديلات القانونية فقط المساعدة في مجابهة هذا التطور، فيما تقول الفيلسوفة الأمريكية سوزان نايمان إن الديمقراطية في خطر.
في ظل التغيرات التي حدثت في النظام الدولي، وما تبعها من تطورات منذ بدايات ثمانينيات القرن العشرين، مثل انهيار الكتلة الشيوعية، وتفكك الاتحاد السوفيتي، اهتمت السياسة الخارجية الأمريكية ببعض المبادئ الأساسية: دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، كسياسة تعكس المبادئ والمصالح الأمريكية؛ فتشجيع الديمقراطية يوسع من نفوذ ومصداقية الولايات المتحدة عالمياً، على اعتبار أن مصالحها سوف تكون أكثر أمناً في عالم يحترم الحقوق السياسية واقتصاديات السوق الحر.
لقد
اعتبر الرئيس بيل كلينتون (1994-2001) وفق ما يذكر المركز الديمقراطي للأبحاث أن توسيع الديمقراطية في العالم يمكن أن يحل محل الاحتواء، كاستراتيجية بديلة وحاكمة للسياسة الخارجية الأمريكية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ولكن هنا نشير إلى أن الديمقراطية الداخلية التي لم تكن محل تجاذب حينها بدأت تتآكل شيئًا فشيئًا.
لقد قلب دونالد ترامب التقاليد الديمقراطية الأميركية رأسًا على عقب في رحلته لخوض انتخابات الرئاسة الأميركية، مستغلًا في ذلك قدراته الفائقة على الترهيب والمبالغة وبراعته في التعامل مع وسائل الإعلام، وروج لنفسه باعتباره يمثل قصة النجاح المثلى. وشهدت السياسة الخارجية لجميع الإدارات الأمريكية تشديدًا على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وضرورة ترويجها، لكن هذه الديمقراطية ضربت لدى دونالد ترامب وأنصاره حيث إنه لا يزال يرفض التسليم بهذه الفكرة من خلال تقبل نتائج الانتخابات، وهذا ما يؤدي حاليًا إلى انقسام الأمة الأميركية على نفسها، وبالتالي إمكانية الوصول شيئًا فشيئًا ما سيؤدي إلى تبدد الحلم الأميركي، أو ما يعرف بالأمة الأميركية، لنكون أمام تطبيق حقيقي لصراع حضاري داخل الولايات المتحدة الأميركية، ولعلنا نشهد نهاية التاريخ الأميركي تحديدًا، لا نهاية التاريخ الذي تحدث عنه فرانسيس فوكوياما والذي يقوم على الديمقراطيَّة الليبراليَّة بقِيَمها المتضمنة للحرية، الفردية، المساواة، السيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، تُشَكِّلُ مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغةٍ نهائيةٍ للحكومة البشرية، والتي تعتبر أن الأمة الأميركية هي نهاية الحضارة أو هي الحضارة لعدم وجود بديل يستطيع تحقيق نتائج أفضل.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024