آراء وتحليلات
أجندات أنقرة.. أبعد من سوريا والعراق
بغداد: عادل الجبوري
اذا كان التصويت الأخير للبرلمان التركي بتمديد العمليات العسكرية في سوريا والعراق عامًا آخر، قد بدا لبعض الأوساط والمحافل السياسية، أنه اجراء روتيني مكرر ليس فيه شي جديد، فإن هناك قراءة أخرى تتجاوز الرؤية التقليدية، ترتبط في جانب كبير منها بمجمل تفاعلات المشهدين الاقليمي والعالمي، وطبيعة اتجاهات سياسات أنقرة القائمة على التمدد والتوسع يمينًا وشمالًا، في اطار مساعٍ وطموحات غير معلنة لاستعادة أمجاد الامبراطورية العثمانية بعدما يقارب المائة عام على أفول نجمها وتلاشيها وانطواء صفحتها.
وبين الرؤية التقليدية والقراءة الاستشرافية العميقة، ثمة العديد من الخيوط الرابطة والنقاط الواصلة، والتي من خلال تعقبها وتفكيك حلقاتها يمكن وضع تصور عام لحقيقة الأجندات والمشاريع التركية بمدياتها الآنية والمتوسطة والاستراتيجية، ومدى فرص وامكانيات تحقق تلك الاجندات والمشاريع على ارض الواقع.
وبينما تستند الرؤية التقليدية الى حقيقة أن تركيا حالها حال بلدان كثيرة تواجه تحديات لمنظومة أمنها القومي من الامتداد الجغرافي مع بعض جيرانها، يحتم عليها ذلك أن لا تكتفي بالتفرج والتزام الصمت، لان ذلك من شأنه ان يعود عليها بنتائج سلبية سيئة، لا سيما مع وجود جماعات وتنظيمات عسكرية مسلحة معارضة لها، من قبيل حزب العمال الكردستاتي(PKK)، ولا سيما مع وجود ملفات وقضايا خلافية مثل تلك التي مع اليونان حول قبرص، ناهيك عن طبيعة المشاكل والازمات التي تعيشها بعض البلدان المجاورة لها مثل العراق وسوريا، والتي من الممكن أن تنعكس بشكل أو بآخر عليها. كما في تفاعلات الأحداث بسوريا منذ تسعة أعوام ، وما سببته من حركة نزوح واسعة، كان لتركيا حصة الأسد منها.
ولا شك أنه في اطار هذه الرؤية التقليدية، فإن هناك ما تحاول أنقرة تجنبه وتحاشيه، وبما يضمن لها الحفاظ على استقرارها السياسي والامني والاقتصادي والمجتمعي، وهو هدف معقول ومنطقي ومبرر. فضلًا عن ذلك، هناك طموحات ومطامع تسعى أنقرة الى تحقيقها والوصول اليها، كجزء من عملية الصراع والتنافس بين قوى اقليمية ودولية على الهيمنة والنفوذ والتوسع والاستئثار بأكبر قدر من المكاسب والانجازات.
عند هذه النقطة تحديدًا تفرض القراءة الاستشرافية العميقة لطبيعة ومنحى التوجهات التركية نفسها، حيث يبرز التداخل والتشابك بين الرؤية التقليدية والقراءة الاستشرافية، فالسعي المحموم من قبل اردوغان لاستعادة أمجاد الامبراطورية العثمانية بات واضحًا الى حد كبير أكثر من أي وقت مضى، ورغم التقاطعات العقائدية والمنهجية بين اردوغان ذي الجذور والخلفيات الاسلامية الاخوانية ومنافسيه وخصومه القوميين، الا ان هناك نوعًا من التوافق والتأييد للتوجه القائم على التوسع، والا
وتشير بعض التقارير الى أن دوائر مصغرة من خبراء ومتخصصين في الشؤون الاستخباراتية والاستراتيجية والاقتصادية نصحوا اردوغان بعدم الاستسلام للضغوط والانسحاب من سوريا والعراق، لأن خطوة من هذا القبيل تنطوي بنظرهم على خسائر أكبر من الخسائر المترتبة على البقاء، وأكثر من ذلك ترى بعض المراكز المتخصصة برسم السياسات والتوجهات الاستراتيجية في انقرة، أنه حتى لو كانت الحكومة التركية قادرة على انهاء حزب العمال أو جماعات أخرى معارضة، فإنها من الخطأ أن تفعل ذلك، لانها ستفقد أحد أبرز وأهم المبررات والذرائع للابقاء على تواجدها ناهيك عن التوسع والتمدد الى مساحات وميادين اوسع وابعد.
ولعل معطيات الواقع تعزز رؤية المراكز المشار اليها، فالتواجد العسكري لحزب العمال(PKK) في مناطق من شمال العراق، برر للحكومة التركية الوصول الى مدن ومناطق في عمق الجغرافية العراقية، وتأسيس معسكرات علنية دائمة، كما هو الحال بالنسبة لمعسكر زليكان في قضاء بعشيقة جنوب محافظة نينوى، الى جانب المظاهر الاخرى، الاستخباراتية والثقافية والاجتماعية، تحت ذريعة دعم وحماية واسناد المكون التركماني. وذات الصورة نراها شاخصة في المشهد السوري، وان اختلفت في بعض جزئياتها وتفاصيلها بحكم تفاوت الظروف والعوامل المحركة للوقائع والاحداث.
ولأن القضية أكبر من التفكير بحماية الامن القومي التركي، ودرأ المخاطر والتهديدات القادمة من وراء الحدود مع الأطراف المجاورة، فإنه من الخطأ التعاطي مع العمليات العسكرية التركية في العراق وسوريا، وتفويض البرلمان التركي للحكومة باستمرارها لعام آخر، في أطرها الضيقة وأهدافها الظاهرية المعلنة، بينما تعكف مراكز صنع القرار التركي على البحث عن مسارات وخيارات جديدة لتعديل ما فرضته مخرجات الحرب العالمية الاولى (1914-1918) قبل مائة عام، من انهيار الامبراطورية العثمانية الى اتفاقية سايكس بيكو (1916) الى فرض معاهدة لوزان (1923)، علمًا أن اردوغان وفريقه المساعد تجاوزوا مرحلة التفكير ليلجوا في مرحلة التخطيط والتنفيذ.
فتركيا اليوم متواجدة بقواتها العسكرية وترسانتها الحربية وواجهاتها الانسانية والثقافية والاجتماعية وأجهزتها الاستخباراتية في الخليج وشمال افريقيا ووسطها والمغرب العربي، وباتجاه آخر في افغانستان واذربيجان ودول أخرى من بقايا الاتحاد السوفياتي السابق، فضلا عن اوربا من خلال جالياتها الكبيرة والمؤثرة في البعض منها.
وعلى سبيل المثال، اذا كانت تركيا متواجدة عسكريا في قطر وليبيا وغيرهما، فإنها ممتدة ومتمددة على نطاق واسع عبر الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا) التي تأسست عام 1992 بهدف تنسيق علاقات تركيا المتنوعة مع الدول الناطقة باللغة التركية في وسط آسيا، ومساعدة تلك الدول على إعادة تأسيس وتطوير وتأهيل نفسها وبالتالي جعلها قريبة لتركيا أكثر من غيرها من الدول، اي بعبارة اخرى، ضمان تبعيتها لتركيا وليس لطرف اخر.
والملفت انه مع تنامي نزعات التوسع، لم تعد مهام تلك الوكالة مقتصرة على دول وسط اسيا، بل انها راحت تتحرك وتسجل حضورا في مختلف الاماكن التي تشهد اضطرابات واختلالات وازمات اقتصادية ومجتمعية، ولعلها حاولت استغلال تداعيات انفجار مرفأ بيروت، لتوجد لانقرة موطئ قدم هناك من خلال بوابة الدعم الانساني واغاثة المتضررين.
إن
وهكذا، فإن القراءة الاستشرافية العميقة التي تأخذ بعين الاعتبار مثل تلك الحقائق والمعطيات، لا بد من أنها ستوضح بشكل أو بآخر اتجاه بوصلة الحراك التركي-عسكريا كان ام سياسيا ام استخباراتيا ام ثقافيا واجتماعيا-في العراق وسوريا، الذي يتجاوز في أبعاده الضوء الأخضر الشكلي الممنوح من قبل البرلمان التركي للحكومة، ليكون بالتالي جزءا صغيرا من حراك عناوينه ومسمياته مختلفة، ومساحاته تتصل بين الارض والمياه والسماء، عله يعيد امجادا طواها النسيان، وطموحات ضيعتها الاحداث، ومطامع ذوبتها الهزائم والانكسارات!
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024