آراء وتحليلات
مصير فرنسا الليبرالية في حوار حول المواطنية ومطالب الشارع
سركيس أبوزيد
مع بداية العام 2019، استُؤنفت حركة "السترات الصفر" في الشارع الفرنسي بعد "ھدنة الأعياد" التي لم تدم لأسابيع، رغم حزمة التنازلات التي أطلقھا الرئيس ايمانويل ماكرون، إضافة إلى الإعلان عن تنظيم "النقاش الوطني الكبير"، في سياق الحد من الحراك الأكثر خطورة في تاريخ فرنسا الحديث.
لكن، يبدو حتى اليوم أن الحكومة الفرنسية قد عجزت عن إطفاء ھذه الحركة. فلا التنازلات التي قدمھا ماكرون لھم الشھر الماضي والتي استجابت للكثير من مطالبهم، ولا إنزال عشرات الآلاف من رجال الأمن كانت كافية لوضع حد لھا. وجاء التحرك الاحتجاجي ليبين أن الجذوة لم تنطفئ بل على العكس من ذلك، زاد لھيبھا، ولم تنجح محاولات الحكومة للإيحاء بأن الحركة الاحتجاجية باتت رھينة لعناصر متطرفة من اليمين واليسار وبعيدة كل البعد عن المطالب التي كانت مرفوعة أساسا. ولم يتردد ماكرون في توجيه اتھامات المس بالجمھورية وقيمھا والسعي لقلب الحكومة والإطاحة بالنظام. وهو في الوقت نفسه لا يريد أن يبدو ضعيفا أو أن يخضع لمن تصفھم حكومته بـ"الغوغائيين" و"المشاغبين" أو"المحرّضين" لأن ثمن ذلك سياسياً سيكون مرتفعاً.
الحوار الوطني الكبير الذي دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المشاركة فيه لحل أزمة "السترات الصفر"، والذي سيستمر حتى منتصف آذار/ مارس المقبل، يرتكز على أربع قضايا ھي: الضرائب، الطاقة الخضراء، الإصلاح الدستوري والمواطنة. لكن هذا الحوار في نفس الوقت يثير الكثير من التساؤلات حول جدواه وكيفية السير به والمواضيع التي سيتناولھا وكيفية تعاطي الحكومة مع نتائجه. ورغبة منه في طمأنة المشككين بجدوى الحوار، أكد ماكرون في رسالته أنه ليست لديه أسئلة محرّمة على النقاش. لكن الحوار يجب أن يتناول المسائل الأساسية التي برزت في الأسابيع الأخيرة، بيد أن ماكرون سارع إلى إغلاق الباب أمام أحد أھم مطالب "السترات الصفر"، وھو إعادة فرض الضريبة على الثروة التي ألغاھا بداية العام الماضي، والتي نظر إليھا على أنھا ھدية لأثرياء فرنسا، خصوصا أنھا تحرم خزينة الدولة من نحو 4 مليارات يورو سنويا.
انطلاقا من ھذا الأمر، يحصر ماكرون الحوار بمسائل تقنية. ومن الواضح أن ھذا الطرح لا يتجاوب بتاتا مع التوقعات الشعبية، حيث بيّن استطلاع سابق للرأي أن 77% من الفرنسيين يريدون العودة إلى الضريبة على الثروّة.
وفي حين يثير "الحوار الوطني" الفضول لدى البعض، فإنه يثير الريبة لدى الكثيرين من حركة "السترات الصفر" وأحزاب المعارضة، وھو ما أظھره موقف حزب "التجمع الوطني" (يمين) الذي اعتبره حيلة للحكومة للخروج من ورطتھا.
مطالب "السترات الصفر" ليست المشكلة الوحيدة التي تواجه فرنسا، فهناك ما يسمى "مشكلة" الإسلام في فرنسا لحل مشكلة "الإسلاموفوبيا" وبما يتوافق مع المواطنية الفرنسية، حيث يشكل الإسلام الذي يقدر أتباعه بنحو ستة ملايين شخص الديانة الثانية في فرنسا بعد الكاثوليكية. إلا أنه لم يكن يتمتع بحضور كافٍ عندما أقرّ قانون عام 1905، وبالتالي يتعين إعادة النظر به حتى تكون معاملة الديانة المسلمة كمعاملة الديانات الأخرى.
ومؤخراً التقى ماكرون في قصر "الإليزيه" وفدا من المجلس الفرنسي للديانة المسلمة لبحث أفكار ومقترحات بشأن خطة تنظيمية لشؤون الإسلام في فرنسا وإصلاحات يجري التباحث بشأنھا مع مسؤولي الجالية المسلمة ومع ممثلي الأديان والمجتمع المدني غرضھا التوصل إلى تحقيق خمسة أھداف رئيسية، أولھا تعزيز مبدأ العلمانية التي يكفلھا الدستور والقوانين الفرنسية وشعارھا قانون عام 1905 الشھير، وتريد الحكومة تعديل وتحديث بعض فقرات القانون المذكور ليتلاءم مع التطورات الديموغرافية وإدخال الديانة المسلمة إلى حضنه.
إنطلاقا من ھذا الوضع، فإن الغرض الإصلاحي يتمثل بـ"مواكبة المسلمين في سعيھم لإعادة تنظيم شؤونھم الدينية". وخلال السنوات العشرين الأخيرة، سعى كافة رؤساء فرنسا من اليمين واليسار إلى ترك بصماتھم في موضوع إعادة تنظيم شؤون الإسلام. لكن الرئيس الوحيد الذي حقق شيئا ما ھو نيكولا ساركوزي الذي نجح عندما كان وزيرا للداخلية في دفع المسلمين لإنشاء المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية والذي ما زال قائما.
في الواقع تريد باريس تحويل "الإسلام في فرنسا" إلى أن يكون قادرا على إدارة شؤونه بنفسه وإعداد وتأھيل الأئمة من المسلمين الفرنسيين بحيث يكونون متمكنين من ثقافتھا وقيمھا. وأخيرا تريد الدولة الفرنسية من رعاياھا المسلمين ومن الھيئات التي تمثلھم أن يكونوا رأس الحربة في مقارعة ودحض الفكر المتطرف والإرهابي، وأن يدعوا إلى مفھوم ديني وسطي منفتح ومتسامح، أي إلى عكس القراءة المتشددة التي تروج في عدد من المساجد وأماكن العبادة.
من الواضح أن فرنسا أمام تحديات كبرى تهدد الاستقرار السياسي والاقتصادي وبالتالي الوجود الفرنسي. والسؤال هنا، ھل ستنجح خطة ماكرون في علمنة الإسلام في فرنسا ووقف احتجاجات "السترات الصفر" من خلال دعوته للحوار الوطني، خصوصاً أن ھناك شبه إجماع مفاده أن مصير الحوار الوطني سينعكس إلى حد بعيد على مصير عھد ماكرون الذي أحرق الكثير من أوراقه، وفي حال فشل الحوار فإن خططه الإصلاحية ستكون قد عفا عليھا الزمن، إن في ما خص الداخل الفرنسي بما فيه علمنة الإسلام في فرنسا، أو مساعيه لإعادة إطلاق الاتحاد الأوروبي.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024