آراء وتحليلات
مبادرة ماكرون.. والمنطقة الوسطى
ايهاب زكي
إنّ العقل السياسي لحزب الله هو العقل الأكثر استعصاءً على الوهم، ففيضان الأوهام الذي تعاني منه عقول خصومه، عاجزة عن مجرد التسرب إلى عقله المحصن بسدود الواقعية والعقلانية والأخلاق، لذلك فإنّ تجاوب حزب الله مع المبادرة الفرنسية إيجاباً، ليس مردّه التوهم بالاستقلالية الفرنسية عن القبضة الأمريكية، أو التوهم بالقوة والقدرة الفرنسية، فالرئيس الفرنسي حاول لعب دور الشرطي الطيب مقابل الشرطي الأمريكي السيئ، وتجاوب الحزب مع المبادرة لحدودها القصوى، حد تنازله عن كونه في فريق يمثل الأغلبية النيابية، كان من باب الحرص على إبقاء كل الأبواب مفتوحة، وعدم عرقلة أيّ خطوة قد يُعتقد في مكانٍ ما أو زمانٍ ما، أنّه استعجل الخطوات الدراماتيكية، أو أنّه استأثر بالقرار اللبناني، وكان الحاضر الأبرز في ذهنية الحزب هو الحرص على التوافق والسلم الداخلي، حتى لو على حساب وزنه الشعبي والنيابي والإقليمي، ولكن ما حدث أنّ هذه التنازلات لم تكن هي الهدف النهائي، بل كان الهدف هو إعلان الحزب استسلامه المطلق، وأن يرتضي رغم انتصاره في كل الساحات إعطاء الذليل.
فالسعودية التي أطل ملكها من على منبر الأمم المتحدة ليُعلن الحرب على حزب الله، تسعى لتحطيم لبنان مجتمعاً، إذا كانت الحصيلة تدمير حزب الله، وهذا ما ألمح إليه الرئيس الفرنسي حين قال إنّه حاول أن يمنع الأسوأ، والحقيقة أنّه موضوعياً لا مصلحة على الإطلاق للسعودية باستعداء حزب الله لولا التحالف السعودي "الإسرائيلي"، والسعودية أداةٌ أمريكيةٌ غليظة، فبعد عجز القوة "الإسرائيلية" عن المواجهة العسكرية، تقوم السعودية على سبيل البديل، بالحرب الاقتصادية والحرب التعطيلية وحرب الولاءات والحرب المذهبية، وهذا الاستهداف لن يتغير إذا حدث تغيير في الإدارة الأمريكية، فالأزمة في لبنان لا علاقة لها بالملف النووي الإيراني، وإذا عاد بايدن في حال نجاحه أولاً، وسلاسة تسلمه السلطة ثانياً، إلى الاتفاق النووي، فإنّ هذا لن يحل المعضلة الاستراتيجية بل والخطر الوجودي لـ"إسرائيل"، والمتمثل بوجود حزب الله، لذلك فإنّ إرجاء ماكرون صلاحية مبادرته لستة أسابيع، هو على قاعدة "بضاعتكم رُدت إليكم"، فترى الإدارة الأمريكية الجديدة ما تصنع بالملف اللبناني، أتبقى على السياسة الحالية أم تبتكر مقاربة جديدة، ومهما كانت المقاربات، فإنّ غاياتها هي إزالة القلق "الإسرائيلي" الوجودي، من خلال نزع سلاح حزب الله، أو تقييده على أقل تقدير وغلّ يديه، وهذا ما حاولت مناورة ما يُعرف بنادي رؤساء الحكومة السابقين فعله.
حتى في الدبلوماسية قد تضيق المنطقة الوسطى حد العدم، لكن دبلوماسية حزب الله في الملف الداخلي لا تنفك عن اختراعها، وتمتاز بمرونةٍ فائقة عكس صلابتها في ملفاتٍ خارجية، واختراع هذه المنطقة الوسطى في المرحلة الراهنة، هو الخيار الوحيد ليظل بإمكان ماكرون التشدق بمبادرته الفريدة والمعجزة، أما استنكاف الحزب وحلفائه المحليين عن اختراعها، سيصبح ماكرون آخر رئيس فرنسي وآخر مندوب أمريكي زار لبنان، فموازين القوة تتجه تصاعدياً لصالح حزب الله وحلفائه الإقليميين، وتسير على منحدرٍ شديد للولايات المتحدة وحلفائها الدوليين وأتباعها في الإقليم، والمحاولات الأمريكية لتكديس الفاشلين في صندوقٍ واحد - "إسرائيل" وعروش النفط وبعض المطبعين - لن تغيّر في تلك الموازين، بل على العكس تماماً، فلا يوجد ما سيقدمه الفاشلون لبعضهم بعضًا سوى الفشل، لذلك فإنّ على الإدارة الأمريكية وحتى انتخاباتها القلقة، ألّا تخطئ التقدير بالذهاب حد الجدار في لبنان، ما يجعل من المتعذر اختراع المنطقة الوسطى، فالفراغ المحتمل في لبنان وإن بشق الأنفس، هو الفراغ الهادئ والبعيد عن الخضات الأمنية أولاً، والبعيد عن الرغيف الأخير ثانياً.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024