معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

تونس الى أين؟
15/09/2020

تونس الى أين؟

سركيس ابوزيد

شهدت تونس بدايات الربیع العربي. بعد استقالة حكومة إلیاس الفخفاخ تسارعت الأحداث وتصاعدت حدة التجاذبات السیاسیة التي تشھدھا البلاد، نتيجة عدم تجانس الفریق الحكومي، وتشظي المشھد البرلماني، وصراع النخبة السیاسیة التونسیة، حكمًا ومعارضة، وبسبب المؤامرات الداخلیة والخارجیة الخطیرة جدًا التي تحاك ضد الدولة ومؤسساتھا، فضلًا عن محاولات توریط تونس بالحرب اللیبیة، إضافة الى الأوضاع الاقتصادیة والاجتماعیة، ما أدخل البلاد في أخطر أزمة سیاسیة عمیقة في تاریخھا.

الوضع في تونس یفتقد الاإستقرار والحد الأدنى من التعایش السیاسي. والكل ینتقد الكل، والتقییمات السلبیة عادة الجمیع. فالانتخابات التشریعیة والرئاسیة قبل عام أفرزت طبقة سیاسیة متنافرة التوجھات والإیدیولوجیات عجزت عن التعایش بسبب انعدام الثقة بین مختلف الأطراف، وصعوبة تعایش "حركة النھضة" والحزب الدستوري الحر داخل البرلمان، وظھور نوع من البرود السیاسي بین الرئیس التونسي قیس سعید ورئیس البرلمان التونسي راشد الغنوشي رئیس "حركة النھضة". في وقت أصیب الاقتصاد التونسي فبه بالشلل بسبب ارتفاع الدیون وتدھور الخدمات العامة بسبب أزمة فیروس "كورونا". وبعد استقالة حكومة إلیاس الفخفاخ، كلف الرئیس التونسي ھشام المشیشي تشكیل حكومة جدیدة،
وسلك في التشكیل نھج إقصاء الأحزاب وتھمیشھا والانتصار لخیار ما سمي حكومة التكنوقراط. بينما كانت أحزاب اخرى تطالب بحكومة سیاسیة. وتتكون الحكومة الجدیدة، المشكلة من 25 حقیبة وزاریة، من شخصیات تملك خبرة في الإدارة التونسیة، ومن قضاة وشخصیات عملت في القطاع الخاص.

من الواضح أن الرئیس التونسي قیس سعیّد نجح في خلط المشھد السیاسي والمساھمة في تغییره بقوة لصالحه، وكذلك استبعاد كل الأحزاب السیاسیة والكتل البرلمانیة و"الثوریین"، عند اختیاره رئیس الحكومة الجدید ھشام المشیشي وفریقه. ولكن ردود الفعل الأولیة لغالبیة قیادات الأحزاب السیاسیة والكتل البرلمانیة التونسیة اعتبرت ھذه الخطوة انقلابا على البرلمان والشرعیة الانتخابیة وعلى الحیاة الحزبیة، متھمة رئیس الدولة بالھیمنة على الحكم والاستفراد به، وأن الحكومة حكومته ولیست حكومة مستقلة، ورأت أن النظام الرئاسي سیؤدي بالضرورة إلى الحكم الفردي والاستبداد والقمع، على غرار ما حصل في تونس إبان عھدي الرئیسین الحبیب بورقیبة وزین العابدین بن علي بین 1957 ونھایة 2010. ووصف البعض ھذه الحكومة بـ"حكومة الخوف"، بمعنى أنھا الحكومة التي صادق علیھا النواب خوفا من حل البرلمان وإحداث فراغ سیاسي كبیر على مستوى السلطتین التشریعیة والتنفیذیة.

ویُتوقع أن تواجه حكومة ھشام المشیشي تحدیات بالجملة، لعل أھمھا حاجتھا إلى دعم سیاسي برلماني لضمان تمریر مشاریع القوانین والموازنة. البعض یقلل من أھمیة ھذه التحدیات، ویتوقع أن یستخدم الرئیس سعیّد صلاحیات منحھا له الدستور، من بینھا تفعیل الفصل 80، الذي یو ّسع صلاحیاته على حساب رئیس الحكومة ویسمح له باستصدار مراسیم لا ضرورة لعرضھا على البرلمان في وقت لاحق بحجة وجود البلاد أمام خطر داھم وفي حالة طوارئ. وعلى الضفة الأخرى، لا یستبعد عدد من المعارضین أن یُسقط البرلمان الثقة بالحكومة الجدیدة بعد مدة وجیزة، عبر لائحة سحب ثقة یوقعھا 109 نواب أو أكثر، مع تعیین خلیفة له من قبل البرلمان في الیوم نفسه. وبالتالي، فإن كل السیناریوھات واردة.

ما ھو الحل للخروج من ھذه الأزمة؟ ھناك وجھتا نظر:

* الأولى تعتبر أن الحل ھو في إعادة الانتخابات التشریعیة، لأنه من الصعب مواصلة التأزم السیاسي أربع سنوات قادمة في ساحة شعبیة محتقنة، خصوصا أن الحكومة الجدیدة تبدو رغم منحھا الثقة فاقدة للسند السیاسي، فلا ھي حكومة الرئیس ولا ھي حكومة حزب بعینه، ولا ھي حكومة ائتلاف حزبي أو وحدة وطنیة كما جرت العادة، بل إن حصولھا على ثقة البرلمان ھو نتیجة تقاطع مصالح، وتقاطع توترات بین رئیس الدولة والأحزاب التي أقصاھا الرئیس في عملیة تشكیل الحكومة.

* الثانیة تدعو إلى الخروج من الأزمة السیاسیة الحالیة عبر تنظیم استفتاء شعبي على تعدیل الدستور بسبب حدة الخلاف داخل الطبقة السیاسیة والنخب حول النظام السیاسي البرلماني المعدل الذي تعتمده تونس. في ظل ھذا المشھد السیاسي والبرلماني الفسیفسائي، الشرخ أصبح كبیرا، إما أن یحصل انفراج بعد تشكیل الحكومة الجدیدة في ظرف أقصاه شھر، أو یحصل العكس، فتتعمق الھوة بین رأسي السلطتین التنفیذیة والتشریعیة، ویتوسع التصدع رغم الوساطات.

ھناك من یعتبر أن ھذه الحكومة لن تكون مختلفة عن سابقاتھا ولن تعمر طویلا بسبب الأزمة الاقتصادیة والمالیة تزداد عمقًا وتشعبًا، وتنذر بالتحول إلى أزمة اجتماعیة وأمنیة، فضلًا عن التعقیدات والصعوبات الناجمة عن عودة انتشار فیروس "كورونا". وأخطر ما یتھدد ھذه الحكومة: انخفاض نسبة النمو السنویة، ما ینذر باضطرابات اجتماعیة وشبابیة تشمل جیش العاطلین عن العمل والمھمشین في المدن الكبرى والجھات الداخلیة الفقیرة.

الأزمة الحالیة في تونس ھي اقتصادیة بامتیاز، وتحتاج إلى حلول واقعیة بمشاركة دولیة لانتشال الاقتصاد، وأزماته المتمثلة في الدین العام المتفاقم.

في الواقع، ھناك صعوبات جمة تكتنف محاولات الخروج من الأزمة وانتعاش الاقتصاد لرفع النمو، وتحسین المعیشة، واسترضاء الفقراء والعاطلین عن العمل الذین ترتفع نسبتھم في المجتمع التونسي، وذلك یحتاج إلى خطط واقعیة لا أدعیة أو شعارات. فھل تستطیع حكومة ھشام المشیشي أن تواجه كل ھذه التحدیات من دون حزام سیاسي وتشریعي توفره لھا الأحزاب السیاسیة التي لن یكون لھا موقف مؤید للحكومة؟! وھل سیتحرك رئیس الجمھوریة نحو تعدیل الدستور كي یعید الدولة إلى نظام رئاسي یساعد البلاد على تجاوز حالة التشظي والانقسام السیاسي الذي أربك المشھد العام في البلاد، أو على الأقل تعدیل القانون الانتخابي بما یضمن وجود أحزاب أقل وأقوى داخل البرلمان؟

تونس الى أين؟ لیست في مفترق طرق، بل ھي فوق حلبة ضیقة وساخنة جًدا، والرئیس لا یلعب دور الحكم إنما یتحرك كلاعب. إما أن یخرج طرف له قوة القرار الحقیقیة، وإما أن یُعاد خلط كل الأوراق وتبدأ المبارزات وفق سیاق لا أحد یستطیع التنبؤ بمساراته.  

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات