معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

التعاون العسكري الروسي ـ الصيني ـ الايراني: تغير في جيو-استراتيجية العالم
14/09/2020

التعاون العسكري الروسي ـ الصيني ـ الايراني: تغير في جيو-استراتيجية العالم

صوفيا ـ جورج حداد

ليس من شك أن الولايات المتحدة الاميركية، وبسبب بعدها الجغرافي خلف المحيط وطبيعة نظامها الاحتكاري الرأسمالي اليهودي ـ الربوي ـ المافيوزي، كانت المستفيد الأكبر من الحرب العالمية الثانية، وخرجت من تلك الحرب بوصفها أقوى وأغنى دولة في العالم، تمتلك قوة عسكرية لا مثيل لها في التاريخ عنوانها الأول القنبلة الذرية، وتمتلك اقتصادا اسطوريا يضاهي ويزيد على اقتصادات جميع دول العالم مجتمعة.

وفي تلك الأثناء، كان الاتحاد السوفياتي السابق (وقلبه روسيا)، الذي وقع عليه العبء الأكبر من تبعات الوحشية النازية، قد خسر ثلاثين مليونا من ابنائه في الصراع ضد النازية، ناهيك عن ملايين الاسرى الذين استخدموا كأرقاء وعبيد عمل في خدمة المجمع الصناعي ـ الحربي للوحش النازي. وكان الاقتصاد الروسي والسوفياتي مدمرا تدميرا شبه كامل.

وفي الوقت ذاته كانت الصين، حينما تستلم الشيوعيون الحكم فيها في ايلول 1949، افقر بلد في العالم، ويموت فيها كل سنة 5 ـ 10 ملايين انسان من الجوع.

ولكن بعد نهاية الحرب، وبالرغم من الحصار الغربي الكامل، فإن الشعب الروسي ـ السوفياتي الجبار "قام من بين الاموات" (حسب تعبير الاسطورة المسيحية الاورثوذوكسية) ونهض من الحضيض، وحقق طفرة علمية ـ ثقافية ـ اقتصادية ـ عسكرية مذهلة، فأرسل أول انسان ليطير في المدار الارضي سنة 1961، وكوّن جيشا مهيبا قادرا على ابادة اميركا تماما بالصواريخ النووية، وعلى اكتساح كل اوروبا الغربية بالاسلحة الكلاسيكية في بضعة ايام او بضع ساعات. كما ان الصين الشعبية، وبالقيادة الحكيمة للحزب الشيوعي الصيني وبقوة جيش التحرير الشعبي الصيني الباسل، نفضت عنها غبار التخلف الالفي، الخرافاتي ـ الديني وشبه الديني، وانجزت نهضة عارمة لا مثيل لها في التاريخ، وبدون أن تستعمر وتنهب أي بلد اخر، حققت في بضعة عقود تقدما علميا ـ اجتماعيا ـ صناعيا هائلا يضاهي ويفوق ما حققته اميركا واوروبا الغربية الاستعماريتان في عدة مئات من السنين.

وبعد انهيار المنظومة السوفياتية والاتحاد السوفياتي السابقين، أعلنت أميركا نفسها بوصفها القطب العالمي الاوحد، واستخدمت كل قوتها العسكرية والمالية والاقتصادية والتجارية، وجندت دبلوماسيتها ومخابراتها الرهيبة وآلة بروباغندتها الهائلة التي تشمل جيوشا من الاعلاميين والصحافيين وأساتذة الجامعات والفنانين والسينمائيين ومراكز الابحاث والجمعيات المدنية "الخيرية" و"الديمقراطية" و"الحقوق ـ انسانية" والعملاء من كل الأشكال والألوان، اليمينيين و"اليساريين" و"المستقلين"، في الاحزاب والنقابات والمنظمات الاجتماعية، واستخدمت كل ذلك من أجل فرض سيادتها على جميع دول وشعوب العالم، والعمل لتأبيد هذه السيادة.

ولكن أميركا، وكما يقول سبيغنيو بريجينسكي ذاته، ضيعت فرصة السيادة على العالم، بسبب حساباتها الجيوستراتيجية الخاطئة التي تجلت بالاخص في: خسارة الحرب الظالمة على افغانستان في 2001، وخسارة الحرب الظالمة الثانية على العراق في 2003، وخسارة الحرب بالوكالة ـ الاسرائيلية على المقاومة في لبنان في 2006.

والان تتخبط اميركا خبط عشواء في محاولة يائسة للاحتفاظ بمركزها الاول في العالم. ولكنها تسير بسرعة نحو خسارة هذا المركز، بكل ما يترتب على ذلك من عزلة اميركا والاحتمالات المتزايدة لانفجارها من الداخل. في حين ان روسيا والصين، اللتين خرجتا من الحرب العالمية الثانية مدمرتين وجائعتين، تشقان الطريق نحو اعادة بناء نظام عالمي جديد، متعدد الاقطاب، أو الأصح لا - قطبي، يتاح فيه لكل دولة، صغيرة او متوسطة او كبيرة، ان تصون سيادتها وتبني نفسها بحرية، بالتعاون الايجابي والبناء مع جميع دول وشعوب العالم الاخرى، على قاعدة الاحترام المتبادل والمصالح المتبادلة.

وكان سبيغنيو بريجينسكي قد قال قبل موته في 2017 ان اميركا ستواجه كابوسا اذا تم التحالف بين روسيا والصين. ونصح بريجينسكي اميركا بالعمل على خلق التباعد والفرقة بين العملاقين الشرقيين ومحاولة الايقاع بينهما.

ولكن الرياح تجري بما لم يكن يشتهي بريجينسكي.

والقلق الأكبر اليوم لدى "الكتلة الغربية" بزعامة اميركا ينبع من تعميق التعاون التكنولوجي ـ العسكري بين روسيا والصين. وهناك الآن الكثير من الشواهد ان البلدين يعملان بثبات لتوطيد العلاقات بينهما في هذا الحقل. وللمثال، ففي مطلع شهر ايلول سنة 2019 قام نائب رئيس المجلس العسكري المركزي للصين جان يوسيا ووزير الدفاع الروسي سيرغيي شُوْيْغُو بالتوقيع على اتفاق للتعميق اللاحق للتعاون بين البلدين في الحقل العسكري. وحسب تصريح الناطق باسم لجنة الدفاع المركزية الروسية فإن الاتفاق يتضمن موضوع التبادل التكنولوجي ومنح الجانب الصيني امكانية استخدام بعض مكونات نظام الدفاع المضاد للطيران والصواريخ في الشرق الاقصى، مما يدل بحد ذاته على الثقة العالية المتبادلة بين الطرفين.

وفي الكتاب الابيض الصيني عن الدفاع، الصادر في تموز 2019 يذكر أيضا أن التعاون مع روسيا في الحقل العسكري يتطور على مستوى عال ويلعب دورا هاما في ضمان الاستقرار الستراتيجي للعالم.

ويؤكد الكتاب الابيض الصيني أن التعاون العسكري الروسي ـ الصيني سوف يواصل التوسع والتعمق برا وبحرا وجوا.
ومنذ سنة 2012 والى اليوم يواصل كبار القادة العسكريين الروس والصينيين اللقاءات التشاورية الاستراتيجية. وتقول المعلومات المسربة الى الاعلام إن أكثر من 3600 ضابط صيني قد أنهوا في السنوات الأخيرة دراستهم في مختلف الاكاديميات العسكرية الروسية. كما يجري البلدان المناورات التدريبية العسكرية المشتركة في بحر البلطيق والمحيط المتجمد الشمالي وبحر الصين وغيرها حيث تشارك في المناورات مئات الغواصات والسفن الحربية والطائرات المقاتلة والقاذفات الاستراتيجية وأسلحة الصواريخ على أنواعها ناهيك عن المشاة والمغاوير وقوات الانزال البحري والجوي والوف المدافع الميدانية والدبابات والمدرعات.  

وفي تموز الماضي، قامت القوات الجوية الروسية والصينية بأول تحليق مشترك لها فوق المياه الدولية في بحر اليابان وبحر شرقي الصين، مما اثار ردود فعل حادة لدى حلفاء اميركا في الشرق الاقصى ودول الناتو. كما قام الطيران الاستراتيجي الروسي، وبالتنسيق مع الصين، بالتحليق لاول مرة بالقرب من حدود جزيرة تايوان، في تحد مكشوف لأميركا التي تضع تايوان تحت مظلتها. كما أعلن الاميرال الاميركي فيليب دافيدسون أن الصواريخ الباليستية والغواصات الروسية تمثل تهديدا وجوديا لأميركا في الشرق الاقصى، وأن تدعيم القوة العسكرية للصين سيؤدي الى خسارة اميركا لتفوقها العسكري في السنوات القادمة قبل سنة 2050 كما كان يحسب حتى الان. وأكد أنه على أميركا أن لا تسمح بقيام حلف عسكري روسي ـ صيني لأن ذلك من شأنه أن يشكل تحديا للنظام العالمي القائم.

ويقدر محللون استراتيجيون أميركيون أن التعاون بين روسيا والصين يخرج عن نطاق التعاون العادي، وأن هدفه ليس فقط تحدي اميركا وحلفائها، بل الذهاب نحو تشكيل حلف عسكري بين العملاقين.

وتخوفات الكتلة الغربية من التحالف الروسي ـ الصيني مفهومة تماما، لأن التحالف بين دولتين بهذه القدرات الاقتصادية والعسكرية، كما لروسيا والصين، سيؤدي حتما الى قلب كل الميزان الجيو-استراتيجي على الكوكب الارضي.

والسياسة التي تتبعها الادارة الاميركية الحالية، والقائمة على المزيد من التحدي والاستفزاز تجاه روسيا والصين ستدفعهما نحو التقارب اكثر فأكثر وصولا الى التحالف التام. ذلك أن الصين التي لا تمتلك ما يوازي القدرة النووية لاميركا تحتاج بشدة الى دعم القوة الصاروخية ـ النووية لروسيا. كما أن روسيا التي توجه القسم الأكبر من قدراتها المالية والاقتصادية نحو المجمع الصناعي ـ الحربي، تحتاج من جهتها بشدة الى القدرات الاقتصادية الهائلة للصين.  

  وما زاد في مصيبة الكتلة الغربية بزعامة أميركا، ان روسيا والصين لم تتوقفا عند حدود التعاون فيما بينهما، بل اتجهتا نحو التعاون مع الجمهورية الاسلامية الايرانية، التي تحمل الآن لواء المواجهة والمقاومة العربية ـ الاسلامية ضد الامبريالية الاميركية ـ اليهودية العالمية ومخلبها الاقليمي "اسرائيل".

وبالتفاهم الضمني وتوزيع الادوار مع القيادة الايرانية الصلبة والحكيمة، وبنفس طويل، وبتطبيق سياسة العصا والجزرة، تعمل روسيا والصين على زعزعة العلاقة بين تركيا والسعودية ومصر وبين الكتلة الغربية، بهدف أبعد هو ترسيخ مواقع محور المقاومة العربي ـ الاسلامي وتأليب دول العالم العربي ـ الاسلامي كلها ضد الامبريالية الاميركية ـ اليهودية و"اسرائيل".

والآن، عشية الانتخابات الرئاسية الاميركية القريبة، يتسابق حزبا "الفيل" الجمهوري و"الحمار" الديمقراطي الاميركيان للدخول الى البيت الابيض. ولكن ايا كان الفائز في هذه الانتخابات فإن الزعامة الامبريالية ـ اليهودية العالمية لاميركا ستسقط عند اقدام التحالف الروسي ـ الصيني ـ الايراني، الصادق والنزيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل  

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات