معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

ماكرون في بيروت بالأصالة أو بالوكالة.. هل ينجح في التحدّي؟
04/09/2020

ماكرون في بيروت بالأصالة أو بالوكالة.. هل ينجح في التحدّي؟

محمد أ. الحسيني

لم يكد ينجلي غبار الزلزال الثامن في بيروت المنكوبة بانفجار مرفأ بيروت في 4 آب، حتى جاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون معلناً بدء المسار نحو تأسيس الجمهورية الثالثة في لبنان، قبل أسابيع قليلة من حلول ذكرى مئوية إعلان لبنان الكبير مطلع أيلول.. ليس غريباً أن تسارع فرنسا لمساعدة لبنان في أوقات المحنة والأزمات الضاغطة، ليس فقط باعتباره بوابة الشرق إلى الغرب وامتيازه بالتنوّع الديني والتعدّد العرقي والطائفي، بل باعتباره تجسيداً للحضور الفرنسي عبر التاريخ في منطقة الشرق الأوسط، ولم تترك فرنسا يوماً هذا الدور منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 كنتيجة ترسيم حدود وتقاسم نفوذ فرنسي - بريطاني بموجب اتفاقية سايكس - بيكو، وصولاً إلى خروج لبنان مما سمّي بالانتداب أو سلطة الوصاية (تخفيفاً لتعبير الاحتلال) مع إعلان الاستقلال عام 1943 إلى انسحاب كامل القوات الفرنسية عام 1946.

لماذا الاهتمام الفرنسي بلبنان؟

التقط ماكرون خشبة السباق مجتهداً للوصول بها إلى خط النهاية في اهتمام استثنائي يهدف إلى تشكيل عقد سياسي جديد، مما أثار مجموعة من الأسئلة والسياقات، ولعلّ أبرزها:

لماذا لم تبدِ فرنسا هذا الاهتمام الحازم والحاسم من قبل، سواء في عهد ماكرون أو في عهود سابقة، وتضرب بيدها على طاولة السياسيين وتقول لهم كفى فساداً وتدميراً لوطنكم؟ أم أن الانفجار جاء بمثابة نقطة انطلاق، وشكّل مظلّة واسعة للتدخل من الباب الواسع بلا تحفّظات أو موانع داخلية وخارجية؟

هل كان لدى باريس خشية حقيقية من اختفاء لبنان، ومن تجدّد انزلاقه إلى حرب أهلية، كما صرّح وزير الخارجية جان إيف لودريان، فبادرت فوراً إلى التدخّل لمنع الانهيار الوشيك، أم هو إعلان سياسي وتحميل المسؤولية للأطراف الداخلية لما يمكن أن يحصل إذا لم تفلح فرنسا باجتراح الحلول؟

هل الاهتمام الأوروبي بلبنان يهدف إلى منعه من التوجّه شرقاً، والحيلولة دون خروجه من حصرية التبعية للغرب، خصوصاً بعد بروز جدّية فعلية في مدّ اليد اللبنانية إلى روسيا والصين، وربما إيران؟

هل تريد فرنسا ومعها أوروبا إعادة تموضعها السياسي والاقتصادي في المنطقة من بوابة لبنان للجم التمدّد التركي الجشع نحو سواحل حوض المتوسط، والحيلولة دون تجدّد معادلة الصراع العثماني - الفرنسي والأوروبي الذي كان سائداً قبل أكثر من مئة عام، خصوصاً بعد تحضّر لبنان لدخول نادي الدول النفطية، والحيلولة دون خسارة فرنسا على وجه التحديد الاستثمار في مشاريع ضخمة؟

إلى أي مدى يتفق ما يقوم به ماكرون أو يختلف، مع ما ترسمه الإدارة الأمريكية للتركيبة السياسية في لبنان، ولموقعه في الخارطة الجيوسياسية للمنطقة في ظل تسارع الإنبطاح العربي أمام "إسرائيل"؟!

هل وكّلت الولايات المتحدة، المشغولة بالانتخابات الرئاسية، ماكرون بتنفيذ أجندتها، باعتباره طرفاً مقبولاً لدى الأطراف السياسية في لبنان، لا سيما بعدما فشل دونالد ترامب النزق في تحقيق أي اختراق فعلي في الساحة اللبنانية، وهو ما يشكّل فرصة ذهبية لفرنسا - ماكرون للعودة إلى المنطقة من البوابة اللبنانية العريضة؟!

تغيير الطاقم في لبنان مطلب أمريكي - أوروبي
 

ماكرون في بيروت بالأصالة أو بالوكالة.. هل ينجح في التحدّي؟

السياقات والأسئلة هذه كلّها، وغيرها من السياقات منطقية وواقعية ويمكن وضعها في خانة الاحتمالات الفعلية، ومن المتوقع أن يتسارع بروز تفاصيلها في الفترة المقبلة حتى نهاية العام الجاري، ومن هنا يمكن تفسير الحزم الحاسم الذي أتى به ماكرون بتحقيق نتائج ضمن سقف لا يتجاوز ثلاثة أشهر، متسلحاً بما لدى فرنسا من نفوذ تاريخي وعلاقة وثيقة لم تنقطع مع كل الأفرقاء اللبنانيين بدون استثناء ومن بينهم حزب الله، وتركيزه على الأولويات الاقتصادية والمالية والاجتماعية وتأجيل الملفات الشائكة، بما يكفل استقرار البلد عبر إخراجه من أزماته الراهنة أولاً، والانتقال ثانياً إلى مرحلة إعادة تشكيل النظام اللبناني بناءً على عقد سياسي جديد يرقى إلى تأسيس جمهورية جديدة ولا ينسف اتفاق الطائف. وما يدفع إلى تبنّي هذه الخلاصة اتجاه أمريكي وقناعة أوروبية بضرورة تغيير الطاقم الحالي الذي يتحكّم بمقاليد السلطة في لبنان منذ ما قبل اتفاق الطائف، ويشكّل منظومة الفساد التي أوصلت البلد إلى ما هو عليه من العجز والترهّل حتى قارب نقطة السقوط.

حزب الله في قلب المعادلة

اللافت أن ماكرون اتجّه بعكس السير في ما يتعلق بحزب الله مخالفاً توقّعات أو تمنّيات فريق قوى 14 آذار، ما أفرز في البداية فوضى وضياعاً في مواقف هؤلاء ثم انصياعاً (على الطريقة اللبنانية) بانتظار ما يمكن أن يحققّه ماكرون من اختراق في شبكة التعقيدات محلياً وإقليمياً ودولياً، إلا أن البعض منهم عارض توجّهات باريس (سمير جعجع وقواته نموذجاً) مراهناً على اختلاف في موقف كل من الرياض وواشنطن مع الاندفاعة الفرنسية. وفي الواقع أن الرجل لم يأتِ بموقف جديد، فكل ما أدلى به حول علاقة فرنسا مع حزب الله معروف وصادر ببيانات رئاسية صادرة عن الإليزيه في عهود كل الرؤساء الفرنسيين، على مستوى جناحيه السياسي والعسكري وفق التقسيم الأوروبي، وهو جاء إلى لبنان محدّداً أولوياته التي تنسجم مع الأولويات الأمريكية في الفترة الراهنة، بضرورة فرض معالجة طارئة تقود إلى إرساء حالة من التهدئة الشاملة داخلياً، وتمهّد لمرحلة سياسية جديدة لا تستثني أحداً من الأطراف الأساسية والفاعلة في النسيج اللبناني وفي مقدّمتهم حزب الله، وفق ما أكّده ماكرون لرئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد.

الأولوية استقلال لبنان

المتابع لأداء حزب الله منذ الطائف وحتى اليوم لا يفاجئه السياق الإيجابي الذي أبداه مع المبادرة الفرنسية. وكان بيان كتلة الوفاء للمقاومة في هذا الصدد واضحاً ومباشراً عبر الترحيب بأي مبادرة من "الأشقاء والأصدقاء"، ولطالما قدّم الحزب التنازلات السياسية في الشأن الداخلي، والتضحيات العسكرية على مستوى مواجهة العدو، وقدّم الكثير من المبادرات الهادفة إلى دعم لمشروع استقرار لبنان وقيام الدولة العادلة ومؤسساتها التي تلبّي تطلّعات ومتطلّبات الشعب، ومن الطبيعي ألا يقف حجر عثرة أمام أي جهة أو طرف يسهم في تحقيق هذا الهدف، ولكن ليس على حساب ارتهان لبنان وقراره، وليس على حساب إلحاق لبنان بركب المطبّعين مع العدو الصهيوني، فهذا الأمر مرتبط بمعادلة لا تقف عند حدود تشكيل حكومة أو سياسة اقتصادية واجتماعية، بل تطال مصير بلد بكامل عناصره ومقوّمات وجوده.. وللحديث تتمة.

ايمانويل ماكرون

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة

خبر عاجل