آراء وتحليلات
أردوغان ونهاية الأحلام التوسعية
عبير بسام
بعد الصولات والجولات التي قام بها اردوغان مهدداً ومتوعداً بإقامة منطقة عازلة في شمال سوريا، يبدو أن الرئيس التركي بات مكرهاً على القبول بما بين يديه، ألا وهو "اتفاق أضنه". فمن كان يسمع أردوغان خلال السنوات الثماني الماضية، ومن سمعه خلال السنة الأخيرة، كان يعتقد أن الرجل لن يكل ولن يمل حتى يعيد احتلال شمال سوريا على طول الحدود من حلب إلى ادلب. ويبدو اليوم، أن ما جرى على أردوغان في الشمال السوري، يشبه ما جرى على الكيان الاسرائيلي ونتنياهو في الجنوب السوري، ألا وهو نهاية الأحلام التوسعية.
في الجنوب السوري، وقبل العملية التي انتهت في بداية العالم 2018 في محافظة درعا والقنيطرة والتي قام بها الجيش العربي السوري وحلفاؤه من أجل تنظيف المنطقة بشكل نهائي من قوات "داعش"، بدأ نتنياهو بالرحلات المكوكية ما بين موسكو وواشنطن من أجل فرض شروطٍ على دمشق لضمان ما تعتبره حدودها الشمالية في الجولان. ومع أن "تل أبيب" آنذاك حاولت أن تفرض اتفاقيات جديدة غير أنها فشلت. وبعد الرحلات المكوكية عادت لتطالب بالعودة إلى اتفاق العام 1974 والذي يضمن حالة من "التهدئة" ما بين سوريا من جهة والكيان العبري من جهة أخرى.
حاول الكيان الاسرائيلي فرض الشروط بإخراج مقاومي حزب الله والمقاتلين الإيرانيين من سوريا، ظناً منه أن الخطر الوحيد الحقيقي يأتيه فقط من هذين الطرفين. لقد حاول كيان العدو من خلال هذه الافتراضات أن يظهر وكأن الموقف السوري بالمقاومة والوقوف معها مرهون بقوى خارجية، مع العلم أن هذا كلام مغلوط ومضلل ويحاول أن يقلل من أهمية سوريا على المستوى الإستراتيجي في حربها ضد "اسرائيل" من أجل استعادة أراضيها المحتلة ومساندة الشعب الفلسطيني لاستعادة حقوقه، ودعم المقاومة في لبنان. سوريا دعمت المقاومة في صد العدوان عام 2006 على لبنان والانتصار عليه. العدوان، الذي غير معطيات كثيرة والذي بموجبه باتت نقاط ضعف الكيان الاسرائيلي مفضوحة للملأ، والذي أرسى قواعد لن يستطيع بعدها اعتبار اجتياح لبنان نزهة سهلة. الأمر الذي تحدث عنه الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في لقائه الأخير ذاكراً ما يتعلق بتغيير قواعد اللعبة في المنطقة والذي يجعل كيان العدو مقيداً. أما التهديد الذي أطلقه السيد، فلا يعني التصدي للكيان من خلال عملية بسيطة، فيما إذا حاول قصف دمشق ثانية أو حاول التعدي على لبنان أو القيام باغتيالات لعناصره القيادية فحسب، وإنما معناه أنه عند القيام بأي تحرك كهذا، فإن القتال لن ينتهي عند حدود لبنان الحالية بل سينتهي بنهاية الكيان. وهذا ما كانت عليه النتائج الفعلية للانتصارات التي حققها الجيش السوري وحلفاؤه على الجبهة الجنوبية.
وأما الذي يحدث اليوم على الجبهة الشمالية مع الأتراك وحلفاء الأميركيين فهو شيء شبيه بذلك تماماً. فالعودة إلى اتفاق أضنه 1998، وتبليغ الروس بذلك لا يختلف في شيء عن التبليغ الإسرائيلي بقبول اتفاق 1974. الدولتان معتديتان ولهما مطامع في الأرض السورية. وتركيا في الشهر الأخير سجلت رحلات ما بين واشنطن وموسكو تشبه الرحلات الإسرائيلية. ودخول الجيش السوري إلى منبج بعد إعلان الأميركيين الانسحاب من شرق الفرات ومن منبج، تقرأ اليوم نتائجه بوضوح. فمهما كانت المصالح المشتركة التي تجمع ما بين روسيا وتركيا، وروسيا و"اسرائيل"، فإن روسيا ليست معنية بزعزعة مصالحها مع سوريا. روسيا لا تستطيع المساومة بشبر من الأراضي السورية، وعليه فإن الطلب التركي بإقامة منطقة عازلة في الداخل السوري تتواجد فيها قوات تركيا هو أمر مرفوض.
الرفض يأتي لسببين، الأول أن هذا يعد تعدياً على السيادة السورية، والثاني، أن روسيا لن تقبل بقوات نظامية حلف أطلسية قريبة من قواتها المتواجدة في قاعدة حميميم العسكرية في اللاذقية. فتركيا ما تزال جزءاً من حلف الأطلسي، وهي ما تزال مرتبطة استراتيجياً بالولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يعد مصدر قلق في أقل التقديرات بالنسبة لروسيا، تمامًا كما العلاقة ما بين الكيان الاسرائيلي والولايات المتحدة، فهي إن لم تكن مصدر قلق لروسيا فهي بالتأكيد لن تبني جسر ثقة ما بين البلدين، خاصة وأن الكيان الاسرائيلي كما الولايات المتحدة لا يحترمان المواثيق والأعراف الدولية ويتبنيان قراراتهما انطلاقاً من عنجهية مفرطة، وهذا ما لا ينطبق على تاريخ العلاقات الدولية الروسية ما قبل وخلال وما بعد الاتحاد السوفياتي.
وتبقى أزمة المجموعات الإرهابية من "أحرار الشام" وغيرها والتي تدعمها تركيا، وتحاول أن تبني لها منطقة خاصة ترتع في ربوعها في جنوبي حلب وفي ادلب، قنبلة موقوته ومصدر خطر ليس على سوريا واستقرارها فحسب، وإنما على روسيا أيضاً. وبالتالي لا يمكن ترك هذه المجموعات حرة تتغول وتحمل السلاح وتتجول به على طول المنطقة وعرضها. كما ستشكل المجموعات الإرهابية بؤرة خطر حقيقي، ليس على امن الدولة السورية فقط بل على أمن وسلامة واستقرار المواطنين في الدولة السورية. وإذا ما كانت سوريا تريد العودة لتصبح مركزاً اقتصادياً وملاذاً آمناً للمستثمرين فلا يمكنها المراهنة على الأمن بوجود مجموعات غوغائية برعاية تركية على أرضها، فالأمر يعد ضرباً من الغباء.
وحتى في الموضوع الكردي فالكل بات يعلم أن الأمر لن يطول قبل أن يسلم الأكراد سلاحهم ويتخذوا من الدولة ملاذاً لهم، خاصة بعد حجم الأحقاد التي راكموها بينهم وبين باقي السوريين في منطقة شرق الفرات وغربه، بغض النظر عن ديانتهم وأعراقهم، ولذا فإن الخطر الكردي الذي يحاول أردوغان الترويج له يعد كذبة فارغة. غير أن أردوغان المأزوم يحاول اليوم ان يحقق نصراً ما، وبأي طريقة في سوريا، وذلك لن يتحقق له، وسيخرج من حربه على سوريا تماماً كما خرج الكيان الاسرائيلي وسيدته أمريكا خاليَي الوفاض. ولن تنسى سوريا الدماء الزكية التي سفكت في طريق تحقيقها نصرها.
وبعيداً عن العلاقات الدولية ومصالح الدول المتداخلة والتي حاولت على مر ثماني سنوات التدخل واللعب على ما يمكن أن يقدر لها اللعب عليه على الساحة السورية، فإن القرار السوري منذ بداية الأزمة التي دخلت فيها البلد وحتى اليوم لم يتغير ولم تتخل سوريا عن ثوابتها وعن رفضها لوجود أية قوات أجنية خارج قرار الدولة السورية وعن سيادتها الكاملة على أراضيها. كما لم تتخل عن حلفائها، ولن تتخلى عن موقفها في دعم المقاومات العربية من المحيط إلى الخليج، وأنها فعلياً قلب العروبة النابض، وأن لا حياة لأي جسد بقلب ميت.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024