آراء وتحليلات
الصراع على شرق الفرات: نفط وحرب باردة دولية
سركيس ابوزيد
بعد مرحلة من التردد، خاصة بعد تعاظم الدور الروسي في المنطقة، باشرت واشنطن إعادة ترتیب أوراقھا في شرق الفرات، فعادت القوات الأمیركیة لتثبیت نفوذھا بشكل كبیر في المنطقة، والإبقاء على جبھة استنزاف لموسكو ودمشق ومحور المقاومة.
یشھد شرق الفرات تحركات عسكریة أمیركیة ولا سیما في محافظتي الحسكة ودیر الزور، والھدف تعزیز الحضور وإعادة تثبیت النفوذ في تلك المناطق الغنیة بالنفط (تضم المنطقة التي تشكل ثلث مساحة سوریا 185 ألف كلم مربع، 90 في المئة من النفط السوري، ونصف الغاز الوطني، وأكبر ثلاثة سدود، ومعظم المحاصیل الزراعیة). وفي ھذا الإطار، يمكن تسجيل الخطوات التالیة:
1- قیام القوات الأمیركیة بزیارات سریة مكثفة إلى قاعدة الجزرة العسكریة الواقعة في أطراف مدینة الرقة، حیث تُعد من أكبر القواعد العسكریة السابقة للتحالف الدولي، وعملت على توسیع الحضور العسكري بالاستمرار في إرسال دفعات جدیدة من الأسلحة والمعدات إلى قواعد "التحالف" في ریفَي الحسكة ودیر الزور.
2- سحب مھام حمایة حقول وخطوط النفط شرق الفرات من "الدفاع الذاتي" وتسلیمھا إلى عناصر "قوات سوریا الدیمقراطیة"، (قسد)، الذین سبق أن دربھم الجنود الأمیركیون في الرقة ومنبج وعین العرب وخاضوا معارك سابقة مع تنظیم "داعش"، فأعادوا تجنیدھم برواتب مغریة، لیكونوا قوة محلیة ردیفة لـ"التحالف الدولي" في مناطق انتشاره في الحسكة ودیر الزور، واستخدامھم كقوات دھم لأي منطقة یُشك في أنھا تحوي خلایا لـ"داعش"، وتكلیفهم مھمة حراسة وحمایة حقول النفط.
3 - توقیع شركة النفط "دلتا كروسنت إنیرجي" الأمیركیة عقدًا مع "قوات سوریا الدیمقراطیة" لتطویر واستثمارحقول النفط في شرق الفرات واحتمال تصدیره إلى خارج سوریا، وإبرام عقد للحصول على استثناء من وزارتي الخارجیة والخزانة الأمیركیتین، باعتبار أن قطاع النفط ومؤسسات سوریة كثیرة خاضعة لحظر أمیركي بموجب "قانون قیصر" الذي دخل حیّز التنفیذ منتصف حزیران الماضي، ویتضمن إنشاء مصفاتین لتكریر النفط في مناطق سیطرة "قسد"، مع العمل على صیانة الحقول والآبار، وإعادتھا إلى إنتاجھا الطبیعي، بحیث تنتجان حوالى 20 ألف برمیل یومیًا، ما یساھم بسد قسم من حاجة الاستھلاك المحلي. ومن المقرر أن تبدأ الشركة الأمیركیة عملھا قریبًا على معظم حقول النفط الواقعة في المناطق الخاضعة لسیطرة "قسد" لإعادة تأھیلھا واستثمارھا بطاقتھا العظمى، وھو ما سیتیح لـ"الإدارة الذاتیة" بیع النفط بشكل قانوني لأي أطراف تختارھا من دون الحاجة الى تصریفه عبر تجار. الشركة و"قسد" اتفقتا على بدء العمل في المناطق الآمنة في الحسكة، والتریث في العمل في دیر الزور، لوجود مخاوف أمنیة من انتشار خلایا لـ"داعش" في المنطقة. وستعمل "الإدارة الذاتیة" على الحصول على استثمارات في مناطقھا لتحقیق التنمیة المطلوبة، إلى حین إنجاز تسویة سیاسیة في إطار سوریا الواحدة الموحدة...
الاتفاق النفطي أشاع ارتیاحًا لدى الأكراد الذین اعتبروا الخطوة الأمیركیة بمثابة اعتراف أمیركي بـ"الإدارة الذاتیة"، ومؤشرا على وجود أمیركي طویل الأمد في سوریا، ما یعني أن خشیتھم من انسحاب أمیركي مفاجئ لم تعد مبررة. وھذا الاتفاق سیقوي موقف "الإدارة الذاتیة" التفاوضي خلال أي حوارات مستقبلیة مع الحكومة السورية.
من الواضح أن إدارة ترامب تحاول جعل الموارد النفطیة للبلاد ورقة تفاوضیة في الملف السوري، مع أوراق أخرى كالعقوبات، والعزلة، والغارات الإسرائیلیة، وإدلب... للضغط على دمشق وموسكو للقبول بتسویة سیاسیة وفق الشروط الأمیركیة، بمعنى أن الاتفاق النفطي یتجاوز كثیرًا البعد الاقتصادي البحت، لیثیر ملفات خلافیة معقدة سیاسیة الطابع تتخطى حدود الإدارة الكردیة في شرق الفرات، ليصل صداھا إلى دمشق وأنقرة وموسكو.
4- الاتفاق أثار غضب أنقرة التي ستلقي بكل ثقلھا لإفشاله، ذلك أن تركیا قد تساوم على أي شيء في الملف السوري، باستثناء المساومة حیال تصاعد نفوذ الأكراد، فھي خاضت 3 حروب، وقدمت تكلفة مالیة باھظة لأجل تقویض إمكانیة قیام أي كیان كردي شمال سوریا، وستلوح بكل أوراقھا لدى حلیفتھا واشنطن، للحیلولة دون المضي قدمًا في اتفاق یسبغ شرعیة سیاسیة أمیركیة على "الإدارة الذاتیة" الكردیة التي أبرمت الاتفاق من دون المرور عبر الحكومة المركزیة في دمشق. وستجد واشنطن صعوبة بالغة في إقناع تركیا بھذا الاتفاق مقابل التنازل حیال ملفات خلافیة أخرى.
5- موسكو، التي تحاول تحقیق تقارب بین "الإدارة الذاتیة" وبین دمشق، عبر حث الأخیرة على منح بعض الامتیازات للأكراد في مقابل بسط سیطرتھا على مناطق شمال شرق سوریا، ما یتیح المجال للشركات الروسیة الاستثمار في حقول النفط والغاز بموافقة الطرفین، سیدفعھا الاتفاق النفطي إلى إبداء المزید من المرونة إزاء تركیا من أجل التنسیق معھا لتعطیله أو تحسین شروطه، بحیث لا ینتقص من النفوذ الروسي في شرق الفرات، لأن الاتفاق یھدف إلى قطع طرق الإمداد بین بغداد ودمشق، والعراق والساحل السوري، واتھمت واشنطن بتأجیج الوضع في منطقة شرق الفرات، لأن الوجود العسكري الأمیركي في ھذه المنطقة بات عنصرا أساسیا لعدم الاستقرار، وحملتھا مسؤولیة مباشرة عن توسیع الھوة بین الأطراف السوریة، وعرقلة الحوار بین الأطراف وأي مساع لتسویة سیاسیة في سوریا، وزیادة تأجیج عدم الاستقرار السیاسي والمجتمعي في سوریا.
6- دمشق اعتبرت الاتفاق سرقة موصوفة متكاملة الأركان، وأدرجته في إطار الاعتداء على السیادة السوریة. وقالت إن میلیشیات "قسد" تدرك أن الاحتلال الأمیركي إلى زوال لا محالة، وأنھا مھزومة ھي الأخرى مثلھا مثل المجموعات الإرھابیة التي استطاعت الدولة ھزیمتھا.
7- وسع الاتفاق الھّوة بین العشائر من جھة وواشنطن و"قسد" من جھة أخرى، بعد اتھامات عشائریة متكررة للأمیركیین بدعم الأكراد على حساب أبناء العشائر في دیر الزور، خصوصا بعد توقیع الاتفاق النفطي من دون أي اعتبار للعشائر التي یطالب بعضھا بحصة من الأرباح. وكانت وفود عشائریة طالبت بإخراج "قسد" من مناطقھا، وتشكیل إدارة محلیة عربیة سیاسیة تشرف على إدارة منطقة ریف دیر الزور والرقة والحسكة، وتشكیل جیش من أبناء القبائل العربیة یوكل له حفظ الأمن ومحاربة الفساد والفاسدین. وطالبوا كافة أبناء العشائر العربیة الذین یعملون مع "قسد" في الخدمة العسكریة والمدنیة بالانشقاق فورا والالتحاق بجیش العشائر العربیة، فسارعت واشنطن إلى الاجتماع بشیوخ العشائر ووجھائھا من أجل امتصاص الغلیان الشعبي في المنطقة، وإعادة الحیاة إلى طبیعتھا تدریجیا، خشیة فقدان السیطرة على أھم آبار النفط وحقوله في مناطق تشھد انتشارا لقبیلتَي العكیدات والبكارة. كما أن عجز الولایات المتحدة عن ضبط الأوضاع في تلك المناطق سیجعل من قواعدھا ودوریاتھا ھدفا لأبناء العشائر.
في الختام، هذه التطورات تظهر أن الخطوة الأمیركیة الحالیة لا یمكن فصلھا عن مشروعھا المعلن بإقامة الشرق الأوسط الكبیر بناء على متغیّرات سیاسیة وجغرافیة في قیادتھا للنظام الدولي الجدید. فھي تنتقل لمرحلة المواجھة مع الصین، لذلك تعمل علی بناء شراكة كبرى مع دول الشرق الأوسط بتھیئة الظروف لإقامة كیانات جدیدة، ویبدو أن الدولة الكردیة واحدة منھا والتي ستكون كیانا جدیدا یمتلك ثروة نفطیة ضخمة وموقعا جغرافیا مھما للدخول إلى آسیا الوسطى، وإتمام حصارالصین خصوصا بمصادر الطاقة. ولكن قیام دولة كردیة لیس بالنزھة القصیرة ولن یكون أمرا سھلا، ویمكن اعتباره بدایة الطریق نحو الھدف، بإضعاف إیران وتركیا اللتین ستواجھان مراحل صعبة كما حدث للعراق وسوریا، لأن الدولة الكردیة ستكون موزعة على أراضي الدول الأربع.
باختصار: محور الصراع هو السيطرة على النفط وحرب باردة بين اميركا والصين وروسيا، أما شعوب منطقتنا فهي التي تدفع الثمن.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024