آراء وتحليلات
حينما تكون طهران المحطة الخارجية الاولى للكاظمي
بغداد: عادل الجبوري
بدلًا من أن تكون العاصمة السعودية الرياض محطته الخارجية الأولى بعد توليه رئاسة الحكومة العراقية في السادس من شهر ايار - مايو الماضي، تغيرت الأمور بصورة مفاجئة، لتصبح العاصمة الايرانية طهران المحطة الأولى لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.
لم يكن، لا لبغداد ولا لطهران ولا للرياض دور في تبدل المواعيد والاولويات، بل إن العارض الصحي الذي ألمّ فجأة بملك السعودية سلمان بن عبد العزيز، كان وراء ذلك، فبينما كانت التحضيرات النهائية لمغادرة الكاظمي بغداد متوجهًا نحو الرياض كما هو مقرر في العشرين من شهر تموز - يوليو الجاري، تجري على قدم وساق، أعلنت وزارة الخارجية السعودية منذ ساعات الصباح الأولى لليوم المقرر للزيارة عن إرجائها، وجاء في بيان رسمي صادر باسم وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان"تقدر المملكة اختيار رئيس الوزراء العراقي زيارتها كأول دولة بعد توليه منصبه، واحتفاء بهذه الزيارة البالغة الأهمية ورغبة في توفير كل سبل النجاح لها، آثرت قيادتنا الرشيدة، بالتنسيق مع أشقائنا في العراق، تأجيل الزيارة إلى ما بعد خروج مولاي خادم الحرمين الشريفين من المستشفى".
ولأن الرياض وطهران وواشنطن، كانت المحطات الثلاث المقررة لرئيس الوزراء العراقي في أول جولة خارجية له، وبسبب حجم التعقيدات والتشابكات والتداخلات في العلاقات بين الأطراف الثلاثة، والتراكمات التاريخية الثقيلة المتلاحقة لحالة التأزم، ولما لذلك من تأثير كبير على العراق سياسيًا وامنيًا واقتصاديًا، فإنه من الطبيعي أن يكون للمحطة الأولى من جولة الكاظمي اهمية ملموسة، تتجاوز المسائل الاعتبارية والمعنوية والنفسية، الى طبيعة وفحوى ومضمون الرسائل التي يمكن أن تنطلق منها، والتي بدورها يمكن أن تؤسس لمسارات الحوار والبحث والنقاش وسياق التعاطي مع القضايا والملفات في المحطتين اللاحقتين.
وهكذا، كانت طهران محطة الكاظمي الأولى، ليبقى موعد محطة الرياض معلقًا الى حين تحسن صحة سلمان بن عبد العزيز، أو شيء آخر يقدره الباري عز وجل.
ومن طهران أكد الكاظمي على جملة نقاط من بينها، أن زيارته للجمهورية الاسلامية الايرانية، تهدف الى تعزيز العلاقات الثنائية، لاسيما في ظل الظروف الراهنة، حيث يمر البلدان بتحديات ناجمة عن تفشي فيروس كورونا وانخفاض أسعار النفط العالمية، وكذلك أكد أن العلاقات العراقية - الايرانية لا تقوم فقط على الموقع الجغرافي والحدود المشتركة الممتدة لألف واربعمائة وخمسين كيلومتر، بل إن هناك أواصر تاريخية وثقافية ودينية متأصلة في تاريخ البلدين، والجمهورية الاسلامية الايرانية كانت في مقدمة الدول التي وقفت الى جانب العراق في حربه ضد الارهاب والجماعات التكفيرية، ولن ينسى العراق هذه المواقف، وانطلاقا من ذلك يقف الى جانب ايران لتجاوز التحديات الاقتصادية القائمة في ذات الوقت الذي شدد فيه الكاظمي على أن بلاده لن تسمح باستخدام أراضيها لتوجيه أي عدوان أو تهديد الى ايران.
ولا شك أن رئيس الوزراء العراقي الذي جاء في ظل ظروف معقدة وتجاذبات داخلية وخارجية حادة، وتحديات خطيرة، ربما يدرك أكثر من غيره أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال التفريط بالأشواط الطويلة والخطوات الكبيرة التي قطعت على مدى الأعوام الماضية لتنمية وتعزيز العلاقات بين بغداد وطهران، ويدرك أيضًا أن الأخيرة تعد لاعبًا اقليميًا مهمًا ومؤثرًا في المنطقة والعالم، وأن محاولات ومساعي بعض الأطراف الدولية والاقليمية لعزلها ومحاصرتها لن تفلح، والبديل الواقعي والعملي عن ذلك، هو التعاطي معها وفق مبدأ المصالح المتبادلة والحقائق القائمة، وانطلاقًا من هذا المبدأ فإنه يعمل على تذويب الخلافات وتقليل التقاطعات بين ايران من جهة وخصومها من جهة أخرى، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الاميركية والمملكة العربية السعودية، بما يساهم في حلحلة مشاكل وأزمات العراق الناتجة عن تلك الخلافات والتقاطعات.
ولعل القيادة الايرانية، تتفهم وتدرك تعقيدات المشهد العراقي والعوامل المؤثرة فيه، وهي في الوقت الذي تحرص على تعزيز وتقوية العلاقات مع بغداد، بما بخدم مصالح البلدين، تقدر ضرورة وأهمية انفتاح العراق على محيطه العربي والفضاء الدولي، مع التأكيد والتشديد على مواقفها الثابتة حيال القضايا والملفات المحورية، وهو ما سمعه الكاظمي بكل وضوح من اية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي وكبار القادة والمسؤولين الايرانيين الذين التقاهم على مدى يومين متتالين.
فالايرانيون أكدوا للكاظمي، كما أكدوا لأسلافه من رؤساء الوزراء السابقين، أن العلاقات بين ايران والعراق أخوية وراسخة بفضل المشتركات التاريخية والدينية والثقافية والعادات والتقاليد، وأن ما يهم ايران في علاقاتها مع العراق هو استتباب الامن وتحسن الظروف العامة فيه، وهي لم ولن تتدخل في شؤونه، بل تسعى ليكون مستقلًا وموحدًا ومتضامنًا، وتعارض كل ما يتسبب في إضعاف الحكومة العراقية، هذا في الوقت الذي يرى الايرانيون، أن الاميركيين يبحثون دائمًا عن حكومة عراقية شبيهة بحكومة الحاكم بول بريمر بعد سقوط صدام، وبينما لا تتدخل ايران في علاقات العراق مع أميركا، فإنها تتوقع من أصدقائها أن يدركوا أنها مصدر الخراب، والمهم في الأمر أن الكاظمي سمع من الايرانيين رغبتهم وحرصهم على متابعة قضية اغتيال الشهيد القائد قاسم سليماني في العراق من قبل الأميركيين، وكشف ملابساتها وخفاياها، وقد تحدثوا بهذا الملف من زاوية التقاليد العربية في اكرام الضيف، والحفاظ على حياته، والاقتصاص من قتلته.
ولا شك اأن الكاظمي حينما يذهب بعد وقت قصير الى واشنطن والرياض، سيسمع من كبار الساسة هناك تحذيرات مما يسمونه بالنفوذ والمد الايراني في العراقي، والمخاطر المترتبة على ذلك النفوذ، وربما يعرضون عليه دعما مشروطا في هذا الاطار، بيد انه ربما -او يفترض-ان يتحدث اليهم بلغة الواقعيات القائمة والحقائق الشاخصة، وبالمنطق الذي يمكن أن يفضي الى اخراج العراق او النأي به بعيدا عن دائرة الابتزاز والشروط.
قد تبدو المهمة صعبة وعسيرة، لكن "تفهم" واشنطن والرياض، وربما عواصم أخرى، لمجمل الاشكاليات والظروف، كما تتفهمها طهران، من شأنه تخفيف حدة التشنجات، وتقليص نطاق الاشتباكات والتشابكات في بيئة هشة وقلقة ومتصدعة، وكل ذلك، يؤكد حقيقة مهمة للغاية، هي انه يصعب على العراق الخروج من النفق المظلم من دون تفاهمات وتفهمات الحد الادنى بين الفرقاء والخصوم.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024