آراء وتحليلات
ترامب يجر اميركا الى الهاوية
صوفيا ـ جورج حداد
حينما انتخب دونالد ترامب لرئاسة اميركا في نهاية 2016، جاء واميركا لا تزال تعاني بشدة اثار الازمة المالية ـ الاقتصادية التي انفجرت في العام 2008. وجاء ترامب من اوساط "البيزنس" مباشرة، ومن خارج دائرة رجال السياسة المحترفين. وحينذاك سارت ضده المظاهرات والاعتصامات، وطرحت شعارات وافكار مثل "الموت ولا ترامب" و "ترامب سيخرب اميركا" و"ترامب آخر رئيس لاميركا".
تلك الحركة الاعتراضية في الشارع، على انتخاب رئيس، كانت هي الاولى من نوعها في تاريخ الانتخابات الرئاسية الاميركية. واعتبر الكثير من المحللين حينذاك ان هذه الحركة ليست موجهة الى ترامب شخصيا اكثر مما هي نوع من التنفيس عن الغضب الشعبي عن الحالة الاجتماعية التي وصلت اليها اميركا حينذاك، من بطالة وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين، ونقص الخدمات الاجتماعية، وارتفاع معدلات الفقر.
حينما دخل ترامب البيت الابيض رفع شعار "اميركا اولا"، واعطى الانطباع بأن الهم الاول له ولإدارته سيكون تعزيز الاقتصاد عامة، ومن ثمّ تحسين الشروط المعيشية في اميركا. وفي ظل هذا الانطباع اصدر قوانين في 2017، ينتهي مفعولها في 2021، وتقضي بتخفيض الفائدة بشكل ملحوظ على الانتاج والتوظيفات والاستثمارات والخدمات والسلع الاستهلاكية، لتحفيز الناتج المحلي القائم، وزيادة الوظائف وفرص العمل وتخفيض البطالة ومعدلات الفقر. واعلن فرض رسوم جمركية جديدة تتراوح بين 10% و25% على استيراد الالمنيوم والصلب، وذلك بدون التشاور مع الدول المعنية، ومنها "الصديقة" التقليدية لاميركا ككندا والمانيا. وبمختلف الحجج والذرائع عمدت ادارة ترامب الى مضاعفة العقوبات الاقتصادية بشكل خانق تماما ضد روسيا وايران وكل الاطراف التي تتعامل معهما. كما عمدت الى شن الحرب التجارية المسعورة ضد الصين. وذلك في محاولة يائسة لتقليص وإضعاف الدور الذي تضطلع به تلك الدول "المعادية" في الاقتصاد الدولي والتجارة العالمية، ولا سيما في قطاع الطاقة والأسلحة والتكنولوجيا العليا.
وفي نظر الكثير من المحللين بدا وكأنّ ترامب وفريقه يعملان كل شيء لأجل النهوض بالاقتصاد الاميركي وتحسين شروط حياة المواطنين الاميركيين. واستنادا الى هذا الانطباع كان ترامب يأمل في النجاح في الانتخابات الرئاسية القادمة والحصول على فترة ولاية ثانية. ولهذه الغاية، وبحجة انقاذ الاقتصاد الوطني، كان ترامب ومستشاروه على استعداد، وباستهتارية فظة، لأن يضحوا بحياة عشرات ومئات الالوف من الاميركيين ولا سيما المسنين والمرضى لدى انفجار وباء كورونا.
وفي هذا السياق كان ترامب على استعداد ان يتقبّل، كحقيقة لا يرقى اليها الشك، كل ما ينسجم مع سياسته وأهدافه. وكان يزيح من الدائرة المحيطة له كل من لا ينسجم مع رأيه، ويستبعد مصدر كل انتقاد يوجه لسياسته. وكان يتجاهل كل الوقائع التي تعيق حساباته السياسية. وكانت اجندته السياسية واضحة للغاية:
ـ1ـ ان يجعل الاغنياء اكثر غنى.
ـ2ـ ان يدعم الجماعات الراديكالية، العنصرية (البيضاء الانغلو ـ ساكسونية) والدينية (البروتستانتية والمسيحية المتصهينة واليهودية)، من اجل الحصول على الاصوات في الانتخابات الرئاسية القادمة، ومهما كانت نتائج هذه السياسة الخرقاء.
حتى بداية ازمة كورونا كان هذا التكتيك يعمل بنجاح. فكان الاقتصاد يدور، والمعطيات المجمّلة عن البطالة اصبحت اكثر جمالا، وكانت النواة الضيقة حول ترامب تغتبط لهذا "الرجل القوي" في البيت الابيض، الذي يظهر للعالم كم هي عظيمة اميركا حينما تهتم فقط بنفسها على حساب الاخرين جميعا، اعداء وخصوما وحلفاء واصدقاء.
وفجأة ظهر الفيروس القاتل، كصاعقة في يوم مشمس وسماء صافية. فأحرق جميع الاوراق الذهبية التي كانت في يد إدارة ترامب.
ولكن في حين كان العالم بأسره مشغولا باتخاذ الاجراءات الضرورية للوقاية من الفيروس، فإن ترامب رفض منذ البداية الاعتراف بالواقع المستجد. وبدا وكأنه يقوم بـ"عرض واقعي"Realistic Show" في التلفزيون، عرض كتب هو بمفرده السيناريو له.
ومنذ اليوم الاول للوباء بدا ترامب والقسم الاكبر من مستشاريه بأنهم على استعداد ان يضحوا بعشرات ومئات الالوف من المواطنين ولا سيما المسنين والمرضى، فقط وفقط كي لا تعود المؤشرات السيئة للاقتصاد، وان يضمن النجاح في الانتخابات الرئاسية القادمة. فأصرّت ادارة ترامب ان تستمر الحياة الاعتيادية كما في السابق: لا إغلاق للمخازن التجارية، ولا تخفيض لعجلة الدورة الاقتصادية. فنتج عن ذلك وقوع نيويورك في أتون حقيقي. وكان على ترامب حينذاك ان يتحمل المسؤولية، وأن يضع صحة وحياة المواطنين الاميركيين في المقام الاول من الاهمية. وكان يتوجّب عليه ان يدعو الناس لوضع الكمامات والمحافظة على التباعد الاجتماعي، حتى لا تسوء الامور اكثر مما كان. وهو ما لم يحدث. بل اصرّ ترامب على الاستمرار في الظهور بمظهر الرجل القوي الذي لا يعرف الضعف، واوحى وكأن مجرد وضع الكمامة هو عمل سياسي ضده. وقد جرى استغلال كل شيء وتحويله الى اداة تحمل رسالة سياسية ـ حزبية. وليس من الصدفة ان غالبية الجمهوريين اصبحوا يعتبرون الكمامة بمثابة رمز تظاهر للدمقراطيين. ولهذا السبب انتشر الوباء اكثر ما انتشر في المناطق التي يهيمن فيها الجمهوريون.
وفي حين كان يُراد مساعدة الاقتصاد، فإن الذي حدث هو العكس. حيث ان الولايات التي عانت اكثر من الوباء هي بالتحديد الولايات التي كانت اكثر ليبيرالية وتخفيفا للاجراءات الوقائية ضد الوباء. وقد حظي المسؤولون عن تلك الولايات بدعم خاص من ادارة ترامب. واخيرا، حينما اضطر ترامب للاعتراف بخطورة الوضع فإنه حوّل كل شيء الى "عمل عدائي" ووجه اتهاماته خاصة ضد الصين.
وفي هذا الصدد يقول بعض المحللين ان انتشار الوباء كان "صناعة اميركية" وتطويرا للحرب التجارية ضد الصين الى حرب بيولوجية كان هدفها تخريب الاقتصاد الصيني وزعزعة الاستقرار السياسي فيها. ولكن الصين استوعبت الهجوم البيولوجي بفعالية كبيرة وسرعة قصوى، وردّت على الهجوم بهجوم مضاد. واذا افترضنا جدلاً ان هذا التحليل هو صحيح، فإنّ الهجوم المضاد الصيني لن يتوقف، طالما ان السلع الرخيصة الصينية تدخل كل زاوية وكل مرفق وكل بيت في اميركا. وفي هذه الحالة فإن اميركا تقف الآن أمام احتمالين كل منهما اسوأ من الآخر:
ـ امّا القطيعة الاقتصادية التامّة مع الصين، ومنع استيراد السلع الصينية الرخيصة التي تبلغ قيمتها الوف مليارات الدولارات، وهذا يعني الانهيار التام للاقتصاد والمجتمع الاميركيين، لأنّه ليس لدى اميركا المعاصرة بديلا عن هذه السلع. وبالتالي تفكك الدولة الاميركية وزوالها.
ـ وامّا استمرار استيراد السلع الصينية، وعجز الادارة الاميركية عن مواجهة الهجوم المضاد الصيني، والمغامرة بتحويل وباء كورونا الى تسونامي بيولوجي يقع ضحيته ملايين الموتى وعشرات ملايين المصابين من الاميركيين. وبالتالي يكتسح التسونامي تماماً الاقتصاد الاميركي ويمزّق الدولة الاميركية ويدمرها.
حينما انتُخب دونالد ترامب، اعتبر بعض المحللين انّه جاء "من خارج" الازمة الوجودية للدولة الاميركية. وانه سيتعامل مع هذه الازمة ويعالجها بجرأة وعقلانية "من خارجها". ولكن الوقائع الجارية تثبت اكثر فأكثر ان مجيء ترامب هو احد مظاهر الازمة وانعكاس لها. وهذه الازمة ستستمر بوجود ترامب وبدونه. ولكن ترامب وفريقه و"حزبه"، الذين وضعوا اميركا ضد العالم، ووضعوا الشعب الاميركي امام المصير المجهول، يسرّعون عملية جر اميركا نحو هاوية الانهيار التام.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024