آراء وتحليلات
الآثار العربية: هدف على لائحة التدمير الأميركية والصهيونية
عبير بسّام
رافق رياح التغيير التي اجتاحت المنطقة العربية، تصاعد نسبة الجريمة والسرقة والتعدي على مقدرات الدولة من موارد طبيعية، وأظهرت بما يقطع الشك باليقين، أنّ الطمع العالمي في مقدرات بلادنا وصل إلى حد سرقة ليس فقط آثارنا بل تعداه إلى محاولة محو إرثنا الحضاري والإنساني لمنطقتنا. وكأن سرقة الآثار لم تكن تكفي، فكان أن تم تفجير وتحطيم المواقع الأثرية وقلعها من الأرض في بعض الأحيان. صحيح أن الاتهامات وجهت للصوص الآثار أحياناً ولـ"داعش" و"النصرة" في أحياناً أخرى ولكن التدمير الممنهج تم تحت نظر وبحراسة الأميركي مع قوات التحالف في العراق، وتحت نظر وتنظيم الأميركي والتركي في سوريا.
شهد العراق، بحسب العديد من المواقع الإلكترونية، سرقة منظمة للآثار منذ حرب الخليج الأولى في العام 1991، ومن ثم ازدادت وتيرتها خلال الاحتلال الأميركي لبغداد في العام 2003، فمشهد اجتياح اللصوص متحف بغداد ونهبه لا يغيب عن ذاكرتنا، والجنود الأميركيون يقفون أمامه متفرجين. سرقات، تجعل الدم يغلي في العروق ونحن نشهد في العصر الحديث على اجتياح جديد للمغول والتتار يتكرر على العراق. أكثر من 60% من السجلات والوثائق العراقية تم فقدها، 15 ألف قطعة أثرية تمت سرقتها أو تحطيمها في المتحف الوطني العراقي سرقات المواقع الأثرية ارتفعت من 13% ما قبل الاجتياح الأميركي إلى 41% فيما بعده، والأسوأ من ذلك تخريب مواقع أثرية بإكملها بسبب تحويلها إلى ثكنات عسكرية أميركية ومهابط للطائرات. وبحسب عالمة الآثار العراقية لمياء الكيلاني والتي تعمل كمستشارة للآثار في المتحف البريطاني، فإن عدد القطع المسروقة من المتحف الوطني العراقي بعد العام 2003 قد بلغ تقريباً 200 ألف قطعة أثرية.
سوريا أيضاً طالتها جحافل الاجتياح الداعشي لآثارها كما باقي مقدراتها. نهب الآثار المنظم يتم بحراسة أميركية وتركية. ومعظم عمليات التهريب تمر عبر تركيا. اذ لم يتوقف الأمر على نهب البترول والمعامل في سوريا في زمن الحريات، وما لم يكشف حتى اليوم هو مقدار التخريب الذي تعرضت له مهد الحضارة البشرية منذ سبعة آلاف عام قبل الميلاد في حضارتي أفاميا وإيبلا السوريتين، والمواقع السورية الأخرى المسجلة على لائحة التراث العالمي، والتي لم يسلم منها سوى موقع مدينة دمشق القديمة.
حاولت الدولة السورية تدارك تكرار ما حدث في العراق وحسب تصريح لـ "هبة الساخل " مديرة المتاحف في سوريا لـ"فرانس برس"، وهو أن السلطات بدأت بنقل القطع الأثرية لحمايتها من السرقة او التدمير، وأشارت الى وجود "خطة لنقل هذه القطع الى المصرف المركزي". وأضافت أن التراث في خطر، وأن "هذا التراث ليس ملكًا لا لحكومة ولا لرئيس، انه ملك لكل السوريين، وملك للبشرية جمعاء، فلا يجب أن يتعرض للتدمير حتى وان كان البعض يطالب بالحرية".
ما ينهبه اللصوص الرسميون الأميركيون والإسرائيليون، بحسب وكالة عربي الإخبارية، اليوم في الحسكة، هو التاريخ في المنطقة، وهو جزء لا يتجزأ من تاريخ ممالك وإمارات هامة قامت في منطقة شرق الفرات، وهما المملكتان الآشورية والأكادية واللتان كانتا جزءا من الممالك التي تعاقبت على بلاد ما بين النهرين (دجلة والفرات)، وتاريخ الإمارات الأرامية، والتي سميت بالسريانية بعد مجيء السيد المسيح. وللمعلومات العامة، فالسريانية، جاءت منها تسمية سوريا، وهي كلمة آرامية هي "السر" ومعناها السيد، وقد أطلقت تسمية السريان على الآراميين الذين اتبعوا السيد المسيح، بمعنى أنهم أتباع السيد. وما يزال أهل الحسكة والقامشلي حتى اليوم يتحدثون باللغات الآشورية والسريانية والبعض منهم يتحدث بالآكادية. أي أن نهب التاريخ يتجاوز القيمة المادية للآثار ليطال تاريخ المنطقة الإنساني والذي لا تفهم عمقه الشعوب الغوغائية، التي زحفت من بلادها واستقرت في بلادنا بعد أن ارتكبت المجازر وحرقت المكتبات واغتصبت البيوت وأصحابها على حد سواء وأعلنتهم عبيداً وجواري تشرى وتباع.
الأمر المثير للقلق، نحن نعرف في لبنان حجم سرقة الآثار التي تعرض لها البلد إبان الإجتياح الإسرائيلي في العام 1982، والتي ضاعت إلى الأبد. والذاكرة الجنوبية المروية، تحدثت عن سرقة الإسرائيليين للآثار حين كانوا يغلقون مواقع بحسب خرائط يتبعونها ويحفرون لأسابيع ببطء وتأن قبل أن ينهبوا تاريخاً احتضنته أرض الجنوب، وكان التنقيب فيها تنقيباً في أرضٍ بكر. اذ تنتشر في الجنوب إلى جانب القلاع الصليبية، الآثار الكنعانية في الداخل والفينيقية على الساحل. فذات الفكر النهبي الصهيوني تتم بتوصياته عملية سرقة الآثار المستمرة اليوم في سوريا، وفي محافظة الحسكة بالذات من قبل الأميركيين والإسرائيليين وبمساعدة ميليشيات قسد، وقد نشر ذلك موقع وكالة عربي اليوم الأخبارية الخبر في بداية هذا العام. هذا مع العلم أن محافظة الحسكة تعد من أغنى المناطق الأثرية في سورية ففيها 800 موقع أثري مسجل لدى دائرة الآثار والمتاحف في المحافظة وهناك ما يقرب 180 موقعاً غير مسجل.
الأمر المؤسف أن بعضاً من أهالي المنطقة يساهمون في هذا النوع من النهب، وإن كان من خلال تسهيل عمليات السرقة او العمل كأدلاء أو في نقل الآثار مقابل حفنة من المال، وهم لا يقدرون فظاعة تدمير الإرث الحضاري لبلادهم، وبعضهم يعلم ويرتكب فعل الخيانة التاريخية الموصوف. في كلا الحالتين يساهم هؤلاء في عملية مسح الذاكرة والحضارة اللتين حرصت سوريا على المحافظة عليهما طوال الوقت. هذا النوع من البلاهة في التعاطي مع تاريخ المنطقة الإنساني يظهر درجة عالية من الجشع والجهل في آن واحد. اذ يفضح موقع الدويتشه فيله، إن تجارة الآثار في السوق السوداء تأتي في المرتبة الثانية عالمياً بعد تجارة السلاح والمخدرات، وأن 98% من الآثار في ألمانيا هي مسروقة وتأتي من منطقة الشرق الأوسط، وخاصة سوريا والعراق.
حاولت الحكومة السورية حماية الآثار والقطع الموجودة في المتاحف، ونقلت من 24 متحفاً من أصل 25 متحفاً شيدتها في مختلف المحافظات عشرات الآلاف من القطع الأثرية إلى أماكن آمنة. غير أن السرقات تطال المواقع التي لم يطالها التنقيب، والتدمير يطال الكنائس والمعابد وحتى الأرضيات المرصوفة، اذ عرض فيديو كيف قامت "داعش" باقتلاع أرضية من الفسيفساء في أفاميا. كما قدرت اليونسكو بحسب موقع الجزيرة قيمة التحف اأثرية المنهوبة ما بين سوريا والعراق من 7- 15 مليار دولار. ولم تعرف القيمة الحقيقية بعد لأنه بحسب موقع الدويتشه فيله، أنه بمجرد خروج التحف الأثرية المنهوبة تصبح يتيمة وتفقد سجلها الأثري. وبحسب الشرق الأوسط، فإن الخبراء يرجحون: "أن تكون القطع الاثرية المسروقة يجري تهريبها عبر لبنان او دول مجاورة اخرى، لتباع في السوق السوداء".
يؤكد مارك غريشماير، رئيس قسم الآثار للشرق الأدنى في بيروت عبر موقع الشرق الأوسط، أن الآثارات السورية تكتسب أهمية استثنائية من حيث أنها شاهدة على التطور البشري. وأن: "الأمر الرائع في سوريا أنها تشهد على نشوء القرى الأولى في التاريخ". أي أن المواقع التي تدمرها داعش وأخواتها تحت الحراسة الأميركية والتركية شاهد حي على همجية كل منهما، لأن كلاً منهما أفواج من المستوطنين لا علاقة لهما بتاريخ المنطقة وتطورها. فالتعرض للتراث الثقافي يكون: "[إضراراً] بتراث بلد هو إضرار بروح الشعب وهويته". وذلك بحسب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو).
وجاء في موقع الجزيرة أن اليونيسكو أوضحت أن هناك ترابطاً بين تدمير تنظيم الدولة [أي داعش] واستهداف الأقليات الدينية مما يشير إلى وجود "إستراتيجية تطهير ثقافي مدروسة بعناية وشديدة العنف" بتدمير المعالم الأثرية، وخاصة التطهير الذي يطال الأقليات الدينية وحتى المعالم الإسلامية. كما دمرت بعض المعالم بحجة أنها أوثان ومنها معبد "بعل شمين" في العام 2015. ولا ننسى في نهاية المطاف أن تدمير التراث الإنساني هو جزء من سياسة الاستيطان والتغيير الديموغرافي التي ما تزال حكومة أنقرة تدفع باتجاهها من أجل توطين ارهابييها وعائلاتهم في الشمال السوري. وما تأمل أميركا بتطبيقه من خلال تفريغ شرق الفرات من سكانه لأكثر من ألفي عام من أجل إقامة دولة الأشايس الكردية.
ضمن هذه السياسة يمكن فهم عقلية دونالد ترامب، الذي هدد بعد اغتيال الشهيدين اللواء قاسم سليماني والقائد أبو علي المنهدس إيران بمهاجمة الأماكن الدينية في حال ردت إيران أو كتائب حزب الله في العراق، كما يمكن فهم عقلية أردوغان الذي جاء مع جحافل المغول والتتار من ولاية تركستان وغيرها من أسيا الوسطى أن يفهموا قيمة حضارة المنطقة وتاريخها، ولأنهم يريدون أن يكتبوا تاريخاً مزوراً فهم يشجعون على تدمير الآثار وقصفها وسرقتها. ولأنهم جشعون وطماعون وأبناء أجيال من السارقين المعدمين فهو لا يتوانون في تسهيل عمليات السرقة وتشجيع من يقوم بها.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024