آراء وتحليلات
احتدام الحرب الباردة بین الصین وأميركا
سركيس ابوزيد
بعد تفشي وباء "كورونا"، برزت حملات متبادلة: الصین تحاول تسویق نظامھا كنموذج بديل، وأمیركا تحاول شیطنة النظام الصیني واتھامه بتصنیع الفیروس ونشره في العالم.
مؤخرًا، أصبحت ھونغ كونغ مصدرًا إضافیًا للتوتر المتصاعد بین أكبر قوتین اقتصادیتین في العالم. من جهة، أعلن وزیر الخارجیة مایك بومبیو أن ھونغ كونغ لم تعد تتمتع بالحكم الذاتي، من جهة أخرى، هددت وزارة الخارجیة الصینیة بأنها: "ستتّخذ كل التدابیر اللازمة للتصدي". وقد اعتبرت الصین أن النزاع القائم مع الولایات المتحدة یضع البلدین على شفیر حرب باردة جدیدة.
الخوف المتبادل يتصاعد: یعتقد ترامب أن أسلافه بالغوا في استرضاء الصین وتقدیم الھدایا لھا بسبب إصابتھم بعقدة الاتحاد السوفیاتي، لھذا تعمد الحدیث عن الفیروس الصیني. ویساور القلق إدارة ترامب من تعافي الاقتصاد الصیني من الأضرار التي سببھا الفیروس قبل الاقتصاد الأمیركي.
لذلك الموقف الأمیركي سیزداد حدة مع انطلاق حملة الانتخابات الرئاسیة في تشرین الثاني وسیتحول موقف ترامب العدائي إزاء الصین إلى حجر الزاویة لحملته من أجل إعادة الانتخاب، خصوصًا أن استطلاع رأي أجراه معھد "بیو" للأبحاث في 13 نیسان الماضي أظھر أن 62 في المئة من الأمیركیین یعتقدون أن الصین تشكل تھدیدا كبیرا للأمن الأمیركي أكثر من روسیا وإیران.
یرى العدید من الخبراء أن ما یحدث بین الدولتین بدایة حرب باردة جدیدة. ویشیر ھؤلاء الى الاحتمالات المستقبلیة، أبرزھا:
1 - قطع العلاقات الأمیركیة بالكامل مع الصین، خصوصًا أن الخسائر الاقتصادیة للوباء تقدم دلیلًا على أن الولایات المتحدة بحاجة إلى القیام بالمزید لفصل نفسھا عن سلاسل التورید العالمیة التي تمر عبر الصین.
سیكون لتسریع فسخ الشراكة بین الصین والولایات المتحدة، أي لتفكیك شبكة المصالح الضخمة المشتركة بینھما التي نشأت وتطورت منذ ما یقارب نصف قرن، أثر ھائل في البلدین والمسرح الدولي عامة. لذا، على الطرفین إدراك النتائج الاقتصادیة والجیوسیاسیة للقطیعة الكاملة بینھما، لأنه بحكم التبعیة المتبادلة بین اقتصادیھما سیتضرران كثیرا من القطیعة.
إنھا مواجھة تُستخدم فیھا كل الأسلحة، غیر أن المشكلة التي تواجه واشنطن ھي تردد حلفائھا في الوقوف إلى جانبھا في حملتھا على بكین. فالدول الأوروبیة، تتردد في انتقاد بكین لأسباب كثیرة، منھا الھیمنة الاقتصادیة الصینیة على الأسواق الأوروبیة، وحجم الاستثمارات الصینیة في شركات التكنولوجیا الأوروبیة التي توازي أو تفوق الاستثمارات الأمیركیة، وكذلك شكوك الأوروبیین أن وراء حملة ترامب على بكین أغراضًا انتخابیة، إذ یحاول تغطیة الفشل في مواجھة الوباء الذي وضع الولایات المتحدة على رأس قائمة الدول المتضررة باتھام الصین بأنھا لم تفعل ما كان یجب لمنع انتشاره حول العالم.
2 - احتمال تبوؤ الصین مركز قیادة العالم وأن تحل محل الولایات المتحدة على قمة النظام الدولي بناء على مؤشر السیطرة على الوباء بتكلفة أقل نسبیًا مما تكبدته الولایات المتحدة والعدید من الدول الأوروبیة، خصوصًا أن ھناك مؤشرات عدیدة تشیر إلى تنامي اقتصاد الصین بشكل مطرد، ما أوصلھا إلى عتبة التساوي مع الاقتصاد الأمیركي، وربما تجاوزه بحسب التوقعات في 2030، وھذا یعني أن اقتصاد الصین سیكون الأول عالمیًا، وھذا ما لن تسمح به الولایات المتحدة. ولكن ھذا السیناریو دونه عوامل عدیدة أبرزھا:
- إن نجاح الصین النسبي في مواجھة وباء "كورونا" وعودة الحیاة إلى طبیعتھا في ظل ضوابط اجتماعیة وتقنیة، وتقدیم بكین العدید من المساعدات الطبیة لدول أوروبیة أو نامیة في آسیا وأفریقیا، لا یرقى إلى ولوج مكانة قیادة النظام الدولي أو التبشیر بھا كقدر محتوم.
- إن الدور القیادي العالمي لیس منحة تاریخیة لطرف ما بقدر ما ھو حصیلة متغیّرات عدیدة ومتشعبة تكمن في بنیة النظام السیاسي والقیمي، تتیح فرصة التمدد والنفوذ والتأثیر استنادا إلى عنصر الإرادة السیاسیة الجماعیة. ویمكن القول إن فكرة قیادة العالم بكل ما فیھا من التزامات وأعباء وأدوار ومبادرات تمزج بین الضغط بكل أشكاله، والإقناع والجذب بكل وسائله لیست متوفرة لدى الصین بالقدر نفسه المتوفر لدى الولایات المتحدة.
- أي تراجع في حجم الاقتصاد الأمیركي سیؤدي بالضرورة إلى تراجع الناتج القومي الصیني بسبب الانخفاض المحتمل في حجم التجارة بین البلدین، والذي یصعب تعویضه من خلال التجارة مع دول أخرى سواء نامیة أو متقدمة، مما یوجه ضربة قویة للاقتصاد الصیني.
3 -احتمال انزلاق التنافس إلى مواجھة عسكریة بین البلدین لا تحمد عقباھا، تبدأ من بحر الصین الجنوبي أو تایوان، من شأنھا تھدید الأمن والسلام العالمیین. فالصین ھي أكبر تھدید استراتیجي للولایات المتحدة، وھي قادرة على تخطي التقدم العسكري الأمیركي في غضون خمس سنوات.
یستبعد الخبراء العسكریون في الصین احتمال المواجھة المباشرة مع الولایات المتحدة، على اعتبار أن البلدین قد وصلا إلى حال من الاعتماد الاقتصادي والتجاري المتبادل یتعذر معه نشوب نزاع مسلح بینھما، وإن ظلت المناكفات والحرب الإعلامیة بینھما على ما ھي علیه طالما بقي ترامب في الحكم. كما أن أسلحة الدمار الشامل لدى الطرفین تشكل رادعا حاسما لأي منھما، فإذا ما تعرضت العاصمة بكین أو أي مدینة حیویة في الصین لھجمات صاروخیة فھذا سیؤدي إلى الرد بالصواریخ النوویة مباشرة، قبل أن تصل صواریخ المعتدي إلى أھدافھا.
العلاقة بین الصین والولایات المتحدة لم تكن یوما سھلة أصلا، إذ طالما كانت توصف بالعلاقة الحذرة التي لم تصل الى حد العداوة كما أنھا لم تصل یوما الى التحالف. كانت على ما یبدو علاقة لا بد منھا بالنسبة للطرفین، وكانت السیاسة تختفي تحت مظلة الاقتصاد وفق حاجة الطرفین الى بعضھما البعض. ما یحدث بالفعل ھو احتدام للصراع والتناقضات بین القوتین الدولیتین الأبرز، ومحاولات لتوظیف الجائحة في إطار ھذا الصراع. ارتفاع حدة التناقض الاستراتیجي، ھو أحد العوامل الحاسمة في تحدید معالم زمن "ما بعد كورونا"، وإعادة رسم التوازنات الدولیة سیاسیا واقتصادیا في مرحلة ما بعد الفیروس.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024