معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

29/05/2020

"أمن الخلیج" في الصراع الاقليمي الدولي

سركيس أبو زيد

بادرت طهران أكثر من مرة حتى يكون أمن الخليج نابعًا من التعاون الايراني - العربي، لكن تبعيّة بعض الدول العربية للولايات المتحدة أعاقت هذه المحاولات. وقد شكل أمن الخلیج معضلة دولیة وإقلیمیة، إذ یُعتبر جزءًا من المصالح الحیویة الأمیركیة ومرتبطاً بأمن منابع النفط وطرق إمداده.

وبحكم موقعه الجغرافي یُعد الخليج عاملًا مؤثرًا في أمن الكيان الاسرائيلي، وأي محاولة لتغيير معادلاته تستدعي استخدام القوة المسلحة الأمیركیة للدفاع عنه، من هنا يُفَسّر وجود قواعد عسكرية على أرض دوله. ولكن مفھوم الأمن في الخلیج دخل إلیه معطى جدید ستكون له تبعات استراتیجیة لن تقتصر علیه فقط، بل ستشمل كل أوراسیا والتواجد العسكري الأمیركي في المنطقة.

الربط بین أمن الخلیج وحاجة المجتمع الدولي إلى النفط، حوّل منطقة الخلیج إلى مسرح لأي توتر أو حرب مقبلة، ودفع القوى الدولیة المتنافسة إلى التدخل المستمر في المنطقة، ما خلق حالة من عدم الاستقرار الإقلیمي.

یشكل الخلیج منطقة جغرافیة مشتركة بین إیران والدول العربیة المطلة علیه وھي: العراق، الكویت، السعودیة، قطر، الإمارات، عمان والبحرین.
ویتشكل المشھد الخلیجي الحالي عبر ثلاثة مظاھر: الضفة الإیرانیة التي تتحالف مع روسیا والصین، والضفة  الخلیجیة التي تتحالف مع الولایات المتحدة، والضفة العراقیة وھي منطقة مشتركة إیرانیة ــ أمیركیة. لذلك، إن البیئة الأمنیة في الخلیج تدفع بطبیعتھا نحو التوتر، حیث يبرز عدد من النزاعات التاریخیة التي ما زالت قائمة حول المیاه والحدود والمناطق والآبار النفطیة، مثل النزاعات الحدودیة بین إیران وعدد من دول مجلس التعاون الخلیجي من جھة، وبين دول مجلس التعاون نفسھا من جھة ثانیة. ویظھر ذلك من خلال الصراع الحاد بین دولة قطر والسعودیة، ودولة الإمارات والبحرین.

كذلك، یوجد في الخلیج سباق تسلح یظھر بشكل واضح عبر صفقات الأسلحة التي تبرمھا السعودیة والإمارات، وتطور الصواریخ الإیرانیة. وتتجسد أیضًا معالم البیئة الأمنیة عبر الحضور العسكري الأمیركي الذي ینتشر على مساحة كل الدول العربیة القائمة على سواحل الخلیج، كما یظھر من خلال الاتفاقیات الدفاعیة التي تبرمھا الولایات المتحدة مع ھذه الدول، ومن خلال القواعد العسكریة الأمیركیة التي تسیطر على بحر وجو وبر الخلیج. ویتطور ھذا الوجود النوعي ویتنامى، مجھزًا بأحدث التقنیات العسكریة، كما بُنیت له مؤسسات مدنیة تؤشر إلى بقاء طویل للقوات الأمیركیة في المنطقة، بینما یقدم نفسه باستمرار كقوة موازیة للقوة الإیرانیة.

وبین ھذا وذاك، تتجسد أزمة البیئة الأمنیة عبر الأزمة الیمنیة وتداعیاتھا على المنظومة الإقلیمیة للخلیج، وھي تعكس فعل التناقض بین إیران وبعض دول الخلیج، كما تعكس أیضًا فعل الصراع في المنطقة بین الولایات المتحدة وإیران، بینما سیؤدي استمراره إلى عملیات تشظٍّ تشمل الجغرافیا والسیاسة.

الرئیس الأمیركي دونالد ترامب أعاد خلط الاستراتیجیات، قدیمھا وجدیدھا، إذ إنه قلل من أھمیة منطقة الخلیج النفطیة بالنسبة إلى الاستراتیجیة الأمیركیة، معتبرًا أن مصالح الولایات المتحدة الاستراتیجیة محدودة في المنطقة، ولا ینبغي التعویل على القوات المسلحة الأمیركیة لضمان حریة الملاحة في المیاه المحاذیة للسواحل الإیرانیة. لقد أسقط ترامب العامل النفطي من الاعتبارات الأمنیة التي تدفعه للحفاظ على أمن الطاقة العالمي، كما أھمل الموقع الجغرافي للخلیج، وتھاوى الفكر الجیوبولتیكي الأمیركي في النظر إلى ھذه المنقطة، باعتبارھا المنطقة التي تفصل أوروبا عن الشرق. والثابت الوحید في سبیل البقاء في الخلیج، وفقا لمفھوم ترامب الذي یبني إیمانه ھذا على اعتبارات داخلیة أمیركیة، يتعلق بأمن "إسرائیل".

تنظر ايران الى "الخلیج الفارسي" باعتباره شأنًا إقلیمیًا یخص دول المنطقة فقط، وتعتبره جسمًا أمنیًا واحدًا، وترفض الاتفاقیات والترتیبات الأمنیة التي تعقدھا ھذه الدول مع دول من خارجه. إلا أن المناورات العسكریة التي جرت في المحیط الھندي على مدخل الخلیج في المیاه الدافئة في 22 كانون الأول 2019  بین إیران وروسیا والصین بصفتھا قوى البر الأوراسي، تؤشر إلى القبول الإیراني بدخول عوامل دولیة إضافیة تلعب دورًا أمنیًا في منطقة الخلیج، كرد استراتیجي على قرار الولایات المتحدة بناء قوة عسكریة أمنیة لحمایة الملاحة في میاه الخلیج، من دون مشاركة روسیا والصین. وحدث ذلك بعدما بلغت العقوبات الاقتصادیة الأمیركیة المفروضة على إیران مرحلة من الخطورة لا یمكن مواجھتھا إلا بتغییر استراتیجي یطاول المفاھیم الأمنیة والجیوستراتیجیة في المنطقة، كما یطاول من ناحیة أخرى إعادة بناء دورة اقتصادیة خاصة بین مجموعة من الدول، خارج إطار التأثیر الأمیركي.
 
یمثل قدوم روسیا والصین إلى الخلیج بالنسبة لإیران عملیة انفتاح اقتصادي وسیاسي أوسع وأشمل، وعملیة تكیّف والتقاء حضاري یعبّر عن ذكاء سیاسي.

في الأساس، یتنازع الخلیج عاملان یشكلان البیئة الأمنیة: عامل خارجي تمثله الولایات المتحدة، ویشكل العامل العربي امتدادا له، وعامل داخلي تمثله إیران التي تعمل على تقویته برفده بعامل خارجي یتمثل في روسیا والصین. وقد حاولت ايران أن تشدد على العوامل التي تدفع نحو بناء مفھوم أمني مشترك لمنطقة الخلیج، متنوعة وحضاریة وجغرافیة وثقافیة، كحاجة عربیة ــ إیرانیة، إلا أن الفشل كان من نصیب جمیع المحاولات التي قامت بها للوصول إلى بناء مفھوم مشترك حول الأمن الإقلیمي.

وساھمت التدخلات الدولیة والصراع الدولي في فترة الحرب الباردة، إضافة إلى الوجود الإسرائیلي، ومخزون النفط الذي تضمه المنطقة، والتدخل العسكري الأمیركي المباشر فیه، بعد انتھاء الحرب الباردة، في إبقائه في حال من القابلیة للاشتعال.

كل ذلك یشي بتحولات كبرى في منطقة الخلیج، وقد ساھمت في ذلك أحداث عدة ابتداء من فرض عقوبات اقتصادیة أمیركیة على إیران، وتفجیر ناقلات النفط، والھجوم على المنشآت النفطیة في شركة "آرامكو"، وصولا إلى إغتیال اللواء قاسم سلیماني والرد الإیراني علیه من خلال قصف قاعدة "عین الأسد" الأمیركیة في العراق، وما رافقھا من رفع مستوى التحدي الأمني واحتمالات المواجھة سواء المباشرة أم غیر المباشرة بین الولایات المتحدة وإیران، بموازاة التصریحات الصادرة عن المسؤولین فیھا بوجوب إخراج القوات الأمیركیة من المنطقة. إلا أن المواجھة التي تأخذ طابعا غیر مباشر، ربما تكون أرضھا العراق وتعيد المنطقة إلى ما كانت علیه قبل الاجتیاح الأمیركي للعراق. وربما تكون ساحتھا میاه الخلیج، وستكون انعكاساتھا إقلیمیة وعالمیة وتعيد المنطقة إلى اجواء "عاصفة الصحراء" أو حرب الكویت.

كانت الاتجاھات السابقة في منطقة الخلیج تتفادى المواجھة المباشرة، إلا أن الجغرافیا الاقتصادیة والسیاسیة للمنطقة، وواقع القوة العسكریة للولایات المتحدة وإیران، إضافة إلى التوقعات الكارثیة المحتملة للحرب وخشیة الأطراف الإقلیمیة والدولیة من نشوبھا، تدفع بالمنطقة إلى خیارات استراتیجیة كبرى منها انھیار منظومة دولیة أو تلاشي قوة دولیة عظمى، أو ما نشهده اليوم من تأثير كورونا وتداعياته على العلاقات الدولية واحتمالات تكوين نظام عالمي جديد يقرر مصير البشرية بما فيها الخليج.

 

الخليج

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة

خبر عاجل