آراء وتحليلات
ناقلات النفط الايراني في الكاريبي: تحدي النفوذ الأميركي
د.علي مطر
لطالما اعتبرت الولايات المتحدة الامريكية دول أمريكا الجنوبية مجرد حديقة خلفية لها. وتحول البحر الكاريبي الذي تحده من الجنوب أمريكا الجنوبية ومن الغرب أمريكا الوسطى وتحده من الشمال كوبا وجامايكا وبورتوريكو بينما تحده جزر الأنتيل الصغرى من الشرق، إلى شكل من أشكال الهيمنة الأميركية. من هذا الموقع الاستراتيجي المهم تنظر واشنطن للعالم، بينما يوجد في هذه الحديقة الخلفية الأميركية دول لا تخضع لهذه اليهمنة، وهي لا تزال أشواكاً بل خناجر في ظهر الولايات المتحدة.
صراعات على ضفاف الكاريبي
من أجل السيطرة في هذه المنطقة الاستراتيجية الهامة للولايات المتحدة الأميركية، خاضت الأخيرة صراعاتها التي كادت أن تشعل حرباً لا تحمد عقباها إبان الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي السابق، حيث شكلت كوبا باكورة مساعي الهيمنة الأميركية، مع الحضور السوفياتي القوي في تلك المنطقة، وذلك من خلال أزمة "خليج الخنازير" والصواريخ الكوبية، وهي لا تزال إلى اليوم تشعل تلك الصراعات والتي ليس آخرها مع فنزويلا، هذه الدولة التي تخوض صراعاً لا يهدأ أبداً مع الإدارة الأميركية.
تعد فنزويلا من البلدان الأكثر غنى بالثروات الطبيعية في اميركا اللاتينية. ومنذ اكتشاف النفط في أوائل القرن العشرين، كانت فنزويلا واحدة من أكبر المصدرين في مجال النفط ولديها بعض من أكبر احتياطات النفط والغاز الطبيعي في العالم، كما تعتبر من بين أكبر عشر دول منتجة للنفط الخام. هذه المصادر التي تتمتع بها فنزويلا تفتح شهية الإدارة الاميركية لقلب الحكم في الدولة التي ترفض الخضوع لها.
لقد توترت العلاقات بين فنزويلا والولايات المتحدة الأميركية، بعد عام 2002، وما زالت كون حكومة الرئيس نيكولاس مادورو الذي خلف الرئيس الراحل هوغو شافيز ترفض السياسة الاميركية التي لا تتعامل من الند إلى الند، بل دائماً ما تسعى الى دعم مخططات ضد الدولة الفنزويلية، عبر دعم المعارضة لإزاحة الحكومة الحالية والوصول إلى السلطة، سيما بعد أن قامت واشنطن بتسعير الحصار الجائر ضد كراكاس.
ويأتي هذا الحصار من خلال العقوبات الاقتصادية ضمن الاستراتيجية الأكثر استخداماً في سياسة الهيمنة الأميركية، حيث أصبحت العقوبات بديلاً عن الحروب العسكرية، لمحاولة تغيير القرارات الإستراتيجية للدول والجهات الفاعلة التي تهدد مصالحها، ولفرض تغيرات جيوسياسية تصب في استراتيجية الهيمنة.
إرادة كسر الحصار عن فنزويلا
بعدما تركت فنزويلا وحيدة في مواجهة الحصار الأميركي، باتت تعاني نقصاناً حاداً في إمدادات البنزين، وحدها طهران كسرت الحصار عنها، من خلال إرسال 5 ناقلات نفط كرد لجميل سابق بعد مساعدة فنزويلا شافيز لإيران في فك الحصار النفطي الذي فرض عليها. وقد استطاعت الناقلات الإيرانية تحدي التهديدات الأميركية، حيث كانت تلك السفن الايرانية قد التزمت بالبروتوكولات الدولية وقوانين الملاحة البحرية وكانت جميع أنظمة إرسال الإشارة والتتبع تعمل كالمعتاد وجرت من دون عوائق رغم الجعجعة الأمريكية.
وعلى الرغم من أن واشنطن نشرت سفنا حربية في البحر الكاريبي عقب إعلان طهران عن إرسال ناقلات الوقود إلى فنزويلا، وقامت البحرية الأمريكية بدوريات بشكل روتيني في مياه منطقة البحر الكاريبي، بالقرب من الطريق المحتمل للناقلات الإيرانية، حيث يعد الأسطول الأمريكي الرابع، ومقر قيادته في جاكسونفيل بولاية فلوريدا الأمريكية، مسؤولا عن جميع العمليات في المنطقة، لكن السفن الإيرانية وصلت إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة في فنزويلا.
لقد أظهر الإيرانيّون إراة صلبة في وجه التهديدات باعتراض ناقلاتهم في الكاريبي الذي يعد ميدان السفن الأميركية، وكان التوعد الإيراني بالرد أسقط التهديدات الأميركية وكبل يد القوات البحرية للولايات المتحدة الأميركية، خاصةً أن العالم خبر الإصرار الإيراني خلال أزمة الناقلة الإيرانية المتجهة إلى سوريا، والتي كانت احتجزت لبعض الوقت في جبل طارق وردّت عليها طهران باحتجاز سفينة بريطانية لم يفرج عنها إلا بعد أن تابعت ناقلتها مسارها نحو ميناء طرطوس شرق المتوسط، ولاحقاً في قصف معلن لقاعدة عين الأسد الأميركية في العراق كردّ أوّلي على اغتيال الشهيد القائد قاسم سليماني.
وصحيح أنّ الشحنة الإيرانية تكفي لشهر فقط، ولن تُزيل الحصار المفروض على كاراكاس نهائياً، ولكنّها رسالة تضامن بالغة الأهمية ويُبنى عليها في الفترة المقبلة. فقد استطاع الإيرانيون تحدي التهديد العسكري الأميركي، لا بل استطاعوا أن يستغلوا التواجد العسكري الأميركي في الخليج لمصلحتهم من خلال تهديد القوات الأميركية هناك. ويمكن القول إن ذلك يعد تغيراً كبيراً في قواعد الاشتِباك بين إيران والولايات المتحدة، أبرز عناوينه أنّ جميع السّفن وحاملات الطّائرات والقواعد الأمريكيّة في مِنطَقة الخليج في مرمى الصّواريخ الإيرانيّة، وهذا ما بات يشكل رادعاً للقوات الأميركية في تنفيذ تهديداتها.
رسائل ودلالات كسر الحصار
ويمكن القول إن الخطوة الايرانية في ايصال الوقود والمحروقات الى فنزويلا، تكشف عن عدة رسائل أهمها قوة وقدرة ايران على الوقوف في وجه سياسة الاستكبار الاميركية، وصدق ايران في مواقفها الممانعة للهيمنة الغربية وفرض الاملاءات بمنطق القوة والعسكر. وكذلك احترام طهران وتمسكها بالمقررات الدولية والبروتوكولات العالمية في حرية التجارة الدولية ورفض البلطجة والقرصنة الاميركية في الملاحة الدولية.
ومن ضمن هذه الرسائل أن ايران لم تستسلم للحصار ولم تتخلَّ عن حلفائها الذين يجمعهم الحصار الاميركي، وتؤشر إلى إمكانية القيام بخطوات أخرى مستقبلاً لكسر الحصار الاميركي، وتحويل الدور الإقليمي الإيراني أكثر نحو لعب دور أكبر في السياسة الدولية بمعادلة الخروج من الحزام الإقليمي إلى المساحة الدولية، وخاصةً تمكنها من ربط الشرق الأوسط بسواحل أمريكا اللاتينية.
ويمكن البناء على ما تقدم، لاعتبار أن هذا التحدي الإيراني سيكون على الأرجح، من أهم المؤشرات الدالة على شكل النظام العالمي، الذي يتشكل بعد وباء كورونا، فلا شك أن النظام الدولي الذي تشكل بعد نهاية الحرب الباردة يتلاشى منذ فترة، مفسحاً الطريق أمام نظام عالمي جديد لا يزال في طور التشكل خاصةً بعد اجتياح جائحة كورونا للعالم، لا سيما إذا استغلت هذه الحادثة دولٌ كبرى كروسيا والصين لكسر الهيمنة الأميركية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024