آراء وتحليلات
النازية تحكم
أحمد فؤاد
ثلاث كلمات تهيمن وتحكم المستشارية الألمانية، المصلحة والمصلحة ثم المصلحة، لا شيء يقف في طريق خطط حلم القيادة الأوروبية، وفرصة في أفضل وقت لاستلاب السيطرة والتوجيه على سياسات القارة العجوز، في عصر التعايش مع "كورونا"، سواء كنت تحسبه وهمًا أو همًا قاتلًا.
ألمانيا التي لم تغادرها النازية، رغم بعد المسافة، ومأساة نهاية الحرب العالمية الثانية، وجدت ضالتها في تأخر ثم سقوط الدول الأوروبية واحدة وراء الأخرى أمام تحدٍ لم يظنه أحد احتمالًا قائمًا، نجحت أولًا في العبور من مرحلة التفشي المفزع للوباء، وساعدها نظام صحي "جيد كفاية"، وقدرة مثيرة على التنظيم، وسط عواصف هجوم الفيروس الشرس.
بينما ساد التخبط وضباب الشك على روما وباريس ولندن ومدريد، كانت برلين على موعد مع الحظ السعيد، حظ إثبات أنها الدولة الأوروبية الأقوى والأهم، بجانب واقع اقتصادي يقول إنها صاحبة الاقتصاد الأكبر ومعدلات النمو الأفضل، وقائدة سفينة الاتحاد الأوروبي، الأمل الجماعي الأخير للقارة بكاملها، في عصر متعدد الأقطاب، يقترب بشدة من التجلي خلال العقود القليلة المقبلة.
أرادت ألمانيا استغلال الكارثة المروعة، تمامًا كعادتها التليدة في استخراج المنفعة من باطن المأساة، كررت برلين ما فعلته قبل 10 أعوام مع اليونان، بتشديد خناق الديون الأوروبية على حكومتها، واجتذاب نحو نصف مليون عامل وفني، من أمهر الشباب هناك، لدعم سوق العمل بها، وإمداد شركاتها ومصانعها بأيد عاملة ضمنت لها استمرار معدلات النمو وتخطي الأزمة الاقتصادية العالمية في نهاية العقد الماضي.
فجأة خرجت أنجيلا ميركل، المرأة الفولاذية، لتترأس اجتماعا يخص مسابقة دوري كرة القدم الألماني "البوندزليجا"، وتعلن خطة وضعت المسابقة الرياضية الألمانية كأول مسابقات أوروبا العائدة بعد توقف طويل بسبب جائحة كورونا.
القرار السياسي كان له مردود هائل، لم يغب عن مخططي برلين، الخبثاء، خاصة في ظل لجوء الجارة فرنسا لإلغاء مسابقة الدوري بها، والمسابقتان ضمن الدوريات الخمس الكبرى بأوروبا: (إنجلترا، إسبانيا، إيطاليا، ألمانيا، فرنسا).
أحد أبرز الشخصيات الرياضية في ألمانيا، كارل هاينز رومينيجه، الرئيس التنفيذي للنادي الأكبر والأهم بايرن ميونخ، خرج بتصريحات صحفية مؤكدًا أن دوري بلاده سيضيف مليار مشجع على الأقل لمتابعيه، تصريح صادم يكشف مكاسب هائلة للأندية واتحاد الكرة والشركات الراعية، الكل خرج رابحًا من قرار "ميركل" الاستثنائي.
حقيقة أن كل المسابقات الكروية متوقفة، عدا الدوري الألماني، العائد مطلع الأسبوع الحالي، لا تترك شكوكًا حول ما ستجنيه ألمانيا من فوائد مادية ومعنوية هائلة، لكن العنصر الأهم هو هيبتها على الصعيد القاري، صورة تريد برلين تثبيتها ودعمها وتلميعها، لإثبات القدرة على القيادة التي تحلم بها.
التلميع الدائم والمستمر للصورة الألمانية مستمر، ينتهز كل فرصة، ويدور حول أي أزمة باحثًا عن جني الأرباح، ربما من حق أي دولة أو حتى نظام حكم أن يبحث عن مصالحه الخاصة، هذا أمر لا جدال فيه، فلا أحد في عالم الرأسمالية المفترسة سيقدم أي شيء مجانًا، لكن هل هذا هو النموذج الذي نحتاج النظر إليه، ودعمه، حتى لو بدون وعي!
الرد الأوفى والشاهد الأهم جاء من الشارع الألماني لا مبنى المستشارية، من متظاهرين خرجوا يرفضون سياسة "الكيل بمكيالين"، ومعاملة كرة القدم بطريقة خاصة، ورفع القيود الصحية المشددة عن أندية ولاعبين يحصلون على الملايين سنويًا، مقابل استمرار الحظر على بقية فئات الشعب.
حسب الشرطة الألمانية، ومنظمي مظاهرات الاحتجاج، فقد خرج آلاف الألمان للأسبوع الثاني على التوالي، اعتراضًا على استمرار تطبيق الحظر الصحي والقواعد المشددة في عموم البلاد، واستثناء فئة بعينها.
وفي مدينة ميونخ وحدها، طالب منظمون بالحصول على تصريح لمظاهرة تضم 10 آلاف شخص، بساحة مفتوحة في المدينة، لكن الشرطة منحت تصريحًا لألف متظاهر فقط، وتشير تقديرات الشرطة المحلية إلى أن نحو 5 آلاف مواطن شاركوا في مظاهرات السبت الماضي بشكل عام.
المظاهرات انطلقت في ظل تحقيق ألمانيا لنحو 175 ألف إصابة بفيروس كورونا المستجد، ووفاة ما يزيد عن 8 آلاف ضحية، وهي أرقام ضخمة وكبيرة، وإن كانت أقل مما سُجل في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، الجيران الأوروبيين.
إذًا.. ضحت المستشارة الألمانية، بمصالح الغالبية الكاسحة، في سبيل تحقيق مردود مالي ودعائي، تظنه ضخمًا ويستحق المغامرة، وهذا هو عين ما يوجه من نقد لبعض الحكومات العربية في ظل الأزمة الحالية، أي: تفضيل الاقتصاد على الصحة والسلامة العامة حين وقعت واقعة كورونا، وعدم اللجوء للإغلاق الكامل والفوري، والتأخر في الاستجابة لتحديات هذا الإغلاق، وخاصة بالنسبة للطبقات الدنيا، والمواطنين الذين لا يتمتعون بمصادر معيشية ثابتة، وهؤلاء حملوا مع همّ الوباء هموم توفير لقمة العيش الضامنة للبقاء على قيد الحياة.
في مقابل تلميع النموذج الألماني، على الشاشات العربية، يجري -بحماس أحمق- تجاهل تضحيات القطاع الصحي، في كل العالم العربي.
الكوادر الصحية العربية، التي تعمل بأقل القليل من الإمكانيات، والتي تصمم دومًا حكومات ساقطة في فخ صندوق النقد والبنك الدوليين على تقليصها وإلغائها، هي نقطة الضوء الوحيدة في عتمة الوباء والحياة اليومية في المنطقة العربية.
في حرب حقيقية، دخلها الطبيب والممرض العربي، بلا سلاح، وبأيد مكبلة، وإعلام مصمم على السقوط، للأطباء والممرضين كل التحيات الطيبات.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024