آراء وتحليلات
تركيا المهزومة في سوريا تواصل عدوانها في شرقي المتوسط وليبيا
صوفيا ـ جورج حداد*
قامت الامبراطورية العثمانية البائدة على نزعتين رجعيتين وعدوانيتين:
الاولى ـ النزعة الشوفينية والعنصرية الطورانية (في فرعها التركي ـ العثماني).
والثانية ـ نزعة الغزو والاستعمار والاستعباد المتجلببة زورا بالدين الاسلامي.
وهاتان النزعتان هما المنبع الفكري ـ السياسي، الذي تستقي منه ايديولوجية حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا بزعامة رجب طيب اردوغان، وهي الايديولوجية التي تملي الخطوط العريضة للسياسة الداخلية والخارجية لتركيا الحالية.
إن تركيا المعاصرة، من شرقها الى غربها ومن شمالها الى جنوبها، تقوم على الأراضي المنتزعة من سكانها التاريخيين الأصليين: الارمن، والاشوريين، والسريان، واليونانيين والبلغار، والعرب، الذين أبادهم الأتراك وانتزعوا منهم أراضيهم التاريخية التي تقوم عليها اليوم الدولة التركية، التي تحكم بالاستبداد والدكتاتورية عشرات الملايين من الشعب الكردي الذي لا يشفع له أن قياداته العشائرية ـ الاقطاعية كانت في خدمة السلطنة في عهد الامبراطورية العثمانية البائدة. وفي الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي خاضها وفاز فيها رجب طيب اردوغان طرح شعار: "علينا أن نستعيد الأراضي التي كانت لاجدادنا!".
واستنادا الى هذه الايديولوجية العنصرية الاستعمارية يتابع حزب اردوغان ممارسة سياسة القبضة الحديدية في الداخل والسياسة العدوانية في الخارج.
وانطلاقا من هذه السياسة اضطلع النظام الاردوغاني ـ العثماني الجديد بدوره الرئيسي في الحرب العالمية التي شنت ضد سوريا كدولة وكشعب، حيث ان عشرات الوف الارهابيين التكفيريين من كافة ارجاء العالم تجمعوا وتدربوا وتسلحوا في تركيا اردوغان، ومنها انطلقوا ضد الاراضي السورية والعراقية وشكلوا ما سمي "دولة داعش" وارتكبوا ما ارتكبوه من مجازر وفظائع ونهبوا النفط الخام لعدة شهور وكانت الصهاريج تمتد على خطين متواصلين (ذهابا وايابا) من داخل الاراضي التركية الى منابع النفط السورية. وكل ذلك بدعم وتأييد الدول الامبريالية الغربية وعلى رأسها اميركا، ومن قبل "اسرائيل" طبعا التي كثفت اعتداءاتها على سوريا في تلك الفترة السوداء.
وتجاه هذا العدوان الدولي السافر والفظيع، اضطرت الحكومة الشرعية السورية، مدعومة من الجماهير الشعبية السورية والجيش الوطني السوري، الى طلب المساعدة من الأصدقاء والحلفاء لرد هذا العدوان. وقد حصلت سوريا على الدعم والمساندة من قبل الجمهورية الاسلامية الايرانية (بالمستشارين العسكريين)، ومن قبل روسيا (بالطيران وصوارييخ كاليبر فائقة الدقة)، ومن قبل المقاومة الاسلامية في لبنان بقيادة حزب الله (بالمجاهدين الابطال).
وقد أسفرت الحرب العالمية على الاراضي السورية عن تحطيم مشروع "دولة داعش" التي كانت تركيا تنوي الحاقها بها وانشاء سلطنة عثمانية جديدة. وتحول "الجيش الارهابي التكفيري الدولي" الى شراذم وعصابات تتجمع في شمال سوريا بحماية القوات الاميركية والتركية. وهذا يعني هزيمة المشروع العدواني التوسعي لتركيا الاردوغانية، التي اضطرت للرضوخ لقرارات الاعتراف بالسيادة السورية وبسلامة الاراضي السورية ولتسويات "خفض التصعيد" التي تتيح لتركيا الانسحاب من الاراضي السورية مع حفظ ماء الوجه. وفي الاشهر التي سبقت اندلاع وباء كورونا، كان الجيش الوطني السوري يتقدم بشكل حازم لتصفية جيوب الارهابيين في الشمال السوري وارغام القوات الاميركية والتركية على مغادرة الاراضي السورية. وجاء وباء كورونا ليؤخر تحقيق الخطوات الاخيرة في عملية تحرير كامل الاراضي السورية.
ولكن هزيمة المخطط العدواني التركي في سوريا لم يردع تماما نظام اردوغان العثماني الجديد ـ العدواني ـ الارهابي ـ الفاشي. اذ شرعت تركيا في نقل الوف الارهابيين التكفيريين الاجانب من سوريا الى مناطق سيطرة حكومة فايز السراج في ليبيا، للقتال الى جانبها ضد قوات ما يسمى الجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر. كما ارسلت تركيا قوات نظامية تركية الى ليبيا، وهي تقوم بتعبئة وتدريب وتسليح قوات نظامية تابعة لحكومة فايز السراج، وذلك خلافا لقرارات الامم المتحدة بمنع تصدير الاسلحة الى الاطراف الليبية المتحاربة.
ان القوات الارهابية التكفيرية التي ارسلتها وتواصل ارسالها تركيا الى ليبيا تقاتل الان تحت لواء حكومة فايز السراج. وتركيا تأمل ان تحتل حكومة السراج قطاعا واسعا من الارض الليبية بما فيها مناطق مكامن للنفط. كما تأمل ان تعلن حكومة السراج عن التحول المكشوف الى التوجه الاسلاموي التكفيري. وفي هذا الوقت وقعت حكومة اردوغان في تشرين الثاني الماضي مذكرة تفاهم مع حكومة فايز السراج تتعلق بالمياه الاقليمية والقطاعات البحرية وانشاء ممر بحري واسع بين تركيا وليبيا والتعاون بين الطرفين في التنقيب عن النفط والغاز على امتداد المسافة البحرية المحددة بين الطرفين بشكل وحيد الجانب ومخالف للقوانين البحرية العالمية. ويقتطع هذا "الممر" التركي ـ الليبي المزعوم القسم الاكبر من المياه الاقليمية القبرصية والمياه الاقليمية اليونانية بما فيها المنطقة الاقتصادية البحرية اليونانية، ولا يأخذ بالاعتبار الحقوق البحرية لسوريا ولبنان وفلسطين ومصر.
وتقول تركيا انها مصممة على تنفيذ برنامجها الخاص للبحث والتنقيب عن النفط والغاز في شرقي المتوسط، "بالرغم من كل "اللاعبين" الاخرين، الذين يحاولون افشال البرامج التركية"، كما يقول وزير الطاقة التركي فاتح ديونميز في تصريح له الى جريدة "صباح" التركية.
واضاف ديونميز ان بلاده ستواصل تطبيق برامجها البيزنسية في البحر الابيض المتوسط كما هو مخطط له، وان التنقيب في العمق سيبدأ في شهر تموز 2020، باستخدام سفينة التنقيب المسماة "فاتح".
كما اعلن نائب الرئيس التركي فؤاد اوكتاي ان تركيا بدأت عملياتت التنقيب عن النفط والغاز في شمالي شرقي الشاطئ القبرصي.
وتدعي الحكومة التركية ان منطقة شمال قبرص التي احتلتها القوات التركية سنة 1974 والمسماة "جمهورية شمالي قبرص التركية" المزعومة، والتي لا تعترف بها الا تركيا وحدها، لها الحق في المياه الاقليمية القبرصية على قدم المساواة مع الجمهورية القبرصية التي تعترف بها دول العالم وهي عضو في هيئة الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي. وبهذا الخصوص اتخذ الاتحاد الاوروبي عددا من الاجراءات التقييدية ضد تركيا. وقد ادلى الرئيس رجب طيب اردوغان بتصريح اعلن فيه ان تركيا ستواصل اعمال التنقيب قرب قبرص، واستنكر القرارات التي اتخذها الاتحاد الاوروبي بهذا الشأن.
وقبل ذلك كانت تركيا قد ارسلت سفنها للتنقيب في المنطقة البحرية الاقتصادية اليونانية، مدعية ان لها الحق في التنقيب في المنطقة المحددة بموجب مذكرة التفاهم بين انقرة وحكومة فايز السراج، زاعمة ان هذه المذكرة تتطابق مع القوانين الدولية. ويذكر انه بعد توقيع هذه المذكرة توترت العلاقات بشكل شديد بين تركيا واليونان الى درجة ان البلدين وقفا على شفير الحرب بينهما. وقد صرح يينس ستولتينبرغ الامين العام لحلف الناتو ان البلدين هما عضوان جيدان في الحلف، وان الحلف سيقف على الحياد بينهما، وعلى البلدين ان يحلا المشكلات القائمة بالتفاهم فيما بينهما. واعتبر العديد من المراقبين ان هذا الموقف الناتوي يتضمن تشجيعا غير مباشر لتركيا في موقفها المعادي لليونان والداعم لحكومة السراج في ليبيا.
ان تركيا "غير قادرة" على التخلي عن سياستها العدوانية الخارجية، باعتبار ذلك افضل طريقة لتلافي فتح جميع ملفاتها الداخلية والكيانية التاريخية، من الملف الكردي، الى الملف الارمني، الى ملف اسطنبول وازمير اليونانيتين، الى ملف لواء الاسكندرون السوري وغيرها. ولكن اي معركة خارجية تفتعلها تركيا لتلافي تلك الملفات، ستبوء بالهزيمة النكراء، وسيكون مصيرها فيها اسوأ من مصيرها في العدوان على سوريا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024