معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

بعد كورونا: تجديد العولمة أم نظام انساني جديد؟
08/05/2020

بعد كورونا: تجديد العولمة أم نظام انساني جديد؟

 سركيس ابوزيد

أحدث  فیروس "كورونا" تغییرات وتحولات ھائلة. بعد انتھاء ھذا الكابوس لن یعود العالم كما كان، سيكون مختلفًا بشكل كبیر لكن بصورة غير معروفة حتى الآن. إنھا أزمة عالمیة غیر مسبوقة، ستعید رسم خریطة العالم الجیوسیاسیة وسنشهد تكتلات وتحالفات دولیة ربما تكون في بعضھا على نقیض كبیر مع تلك القائمة حالیًا والموروثة من نتائج الحرب العالمیة الثانیة وانھیار الاتحاد السوفیاتي. معالم المرحلة القادمة بدأت بالظھور باتجاهين متناقضين:

الاول: تجديد العولمة

 الوباء وضع العالم بأسره على صفیح ساخن، من شأنه أن یسھم في تعدیل النظرة للنظام العالمي، لا لجھة نسفه بل لجھة تعزیزه وتقویته أمام الدعوات الشعبویة والقومیة لسیاسات أكثر إنغلاقا، ومن دلائل هذا الرأي:

- أن النظام الدولي الحالي لم یتشكل بفعل الأوبئة والأمراض، ولكن بسبب تحولات في القوة العسكریة، حیث صعدت الولایات المتحدة وفرضت رؤیتھا اللیبرالیة على العالم. باختصار، "كورونا" لن یغیّر في طبیعة النظام العالمي الحالي، الذي سیبقى لیبرالیًا منفتحًا، إلى حین صعود قوى أخرى تھدمه.

- الأزمة الحالیة كشفت أن العالم بأمس الحاجة إلى أن یكون متكاتفًا، وھذا ما یحدث حالیا. العالم یبدو مترابطًا في مواجھة فیروس "كورونا" أكثر من أي وقت مضى، وعلاجه إستنفر كل الطاقات، ونبه العالم إلى ضرورة مزید من التكاتف لمواجھة تحدیات محتملة مشابھة، ولا یمكن أن ینجو كیان أو تكتل بمفرده، وربما تقل المواجھات لصالح التعاون في تقدم البحث العلمي... من غیر المتوقع أن یتفكك العالم إلى قرى معزولة، لكن الحكمة المستخلصة: لا أحد بمقدوره أن یقف وحیدا أمام ھذه الجائحة التي قد تتكرر مستقبلًا.

- العولمة لن تنتھي ولكنھا ستتبدل. لم یعد ممكنا التراجع عن العولمة بسبب تنامي ثورتي الاتصال والمعلوماتیة والاعلام، ما سیؤدي الى انھیار الدیكتاتوریات المتبقیة في العالم، وسیعلو شأن المنظمات الدولیة العابرة للحدود، مع تغیّر النظام التعلیمي ونظم الاقتصاد والصحة في العالم كله.

ھناك كثیرون ممن یتوقعون انتھاء العولمة، باعتبار أن دول العالم بدأت بالانكفاء على نفسھا بدلا من انفتاحھا على العالم. لا شك أن العولمة بمفھوم سیطرة اقتصادیات السوق الحرة قد انتھت إلى غیر رجعة، لكن الثورة المعرفیة وثورة التكنولوجیا ربطت العالم بشكل لا یمكن تفكیكه، ومن الضروري أن تمتد وتتبدل العولمة لتشمل التعاون في مجالات كالوقایة الصحیة ومكافحة الأوبئة، وأن تخصص الموارد الكافیة لذلك بدلا من تخصیصھا لمجالات كالتسلح. لم یخلق فیروس "كورونا" بسبب العولمة، لكن العولمة ھي من ستنجح في محاربته من خلال بلورة رؤیة فاعلة، مبنیة على انعدام الأنانیة والتفاف الأفراد نحو العمل الجماعي وتشارك المعلومة والمعرفة، تماما كما نجحت في الخروج من أزمات مشابھة في العقود الماضیة.

- الاقتصاد سیعاود الصعود والتعافي، وإن كان من الصعب التكھّن بمدى ومدة ذلك من دون معرفة أمد الأزمة نفسھا وحجم الأضرار التي ستنتج عنها. كما أنه سیكون ھناك تفاوت بین الدول فیما یتعلق بمدى وسرعة تعافیھا من الآثار الاقتصادیة لھذه الأزمة بحسب متانة اقتصاداتھا ومرونتھا.

 - الشكوك حول قوة الحضارة الغربیة بعد فیروس "كورونا" مبالغ فیھا. فقوة العلم والمعرفة التي تشكلت خلال قرون قادرة على التغلب على ھذه الأزمة الصعبة.

الثاني: نحو نظام انساني جديد

يواجه هذا الرأي وجهة نظر أخرى تتوقع أن الوباء سيغير العالم باتجه بناء نظام انساني جديد، من معالمه:
 
- ھیبة الولایات المتحدة سقطت، وھناك مؤشرات الى احتمال تمرد ولایات وانشقاقھا عن الاتحاد الفیدرالي الأمیركي. كما أن ھذه الأزمة تتیح لكل الدول التي تدور في فلك الولایات المتحدة الأمیركیة إمكانیة الخروج من "التابو" الأمیركي الى ممارسة حریة القرار والسیادة  في منأى عن التأثیر الأمیركي.

- من جهة نشهد تعزیز الاتجاه نحو إلغاء العولمة. لكن من جهة اخرى یمكن أن تظھر أشكال جدیدة من العولمة. ومن غیر المحتمل أن تكون ھناك صورة شاملة موحدة للتأثیر الجیوسیاسي للأزمة، وما ینتج عنھا من تطورات في النظام العالمي والتنافس بین الدول.

- من المرجح أن یسیر، جنبًا الى جنب، التعاون والصراع المفتوح بین القوى العظمى، خاصة بین الولایات المتحدة والصین. وقد یتسبب "كوفید ـ  19 "في تسریع إنتقال مركز العولمة من الولایات المتحدة الأمیركیة إلى الصین. الولایات المتحدة سیكون أمامھا خیاران: إن كان ھدفھا الرئیسي ھو ضمان إستمرار ھیمنتھا على العالم، فسیتعیّن علیھا الانخراط في صراع جیوسیاسي مع الصین. أما إذا كان ھدفھا تحسین ظروف عیش الشعب الأمیركي الذي تدھورت أوضاعه الاجتماعیة، فسیتعیّن علیھا التعاون مع الصین.

- العالم سیتجه نحو مزید من الانكفاء القومي، والعزلة الاستراتیجیة، وسوف تسعى الحكومات الى تعزیز صلاحیاتھا وقدراتھا لمواجھة أي أخطار مشابھة في المستقبل، وذلك من أجل حمایة مواطنیھا.
 
- ھیبة الاتحاد الأوروبي سقطت، ومن المتوقع أن تكون إیطالیا أول المنفكين عنه لتتبعھا دول اوروبية أخرى، لأنها وجدت نفسها وحيدة في مواجه الكارثة. وقد جاءتھا المساعدات من خارج الاتحاد الذي یفترض أن يكون الناصر لكل أعضائه، فإذ بالصین وروسیا تنجدان إیطالیا.
     
- الخلافات داخل مجلس الأمن التي كانت سائدة ولا تزال وندرة الموارد المتاحة، من شأنھا إضعاف قدرات الأمم المتحدة للاضطلاع بدورھا في صیانة السلم والأمن الدولیین.

- سیسرع الوباء من التحول الاقتصادي الحاصل في العالم، بعیدًا عن مركزیة النظام الأمیركي في النظام الدولي.

ستسعى الشركات الكبرى لإعادة النظر في أسالیب الإنتاج وطرقه بما یحمي مصالحھا ویحمي حقوق موظفیھا، وسیؤدي ذلك الى إعادة تعریف الإنتاج والاستھلاك في جمیع أنحاء العالم، وستنھار شركات عدیدة، وترتفع البطالة، وسیفلس أفراد كثیرون، وستتعرض دول كثیرة لھزات اقتصادیة واجتماعیة عمیقة. الاقتصاد العالمي دخل في حالة من الركود الشدید، وستكون آثاره مؤثرة لسنوات وعقود.

- التحدي التاریخي الذي یواجه قادة العالم في الوقت الراھن ھو إدارة الأزمة وبناء المستقبل في آن واحد، والفشل في مواجهة ھذا التحدي قد یؤدي إلى إشعال العالم وانهيار المؤسسات والمنظمات الدولیة والإقلیمیة، بدءا من منظمة الصحة العالمیة وانتھاء بالاتحاد الأوروبي. إن تآكل ثقة الدول، بقدرة المؤسسات الدولیة والإقلیمیة على التعامل مع ھذه الأزمات وتخفیف أضرارھا سیكون له تبعات سلبیة على مستقبل التعّددیة والتعاون الدولي.

عالم ما بعد كورونا بين خيارين: إما بناء نظام عالمي جديد أكثر انسانية ومساواة وتعاونًا، أو تجديد العولمة السائدة بعد اصلاح الكوارث التي نتجت عن رأسماليتها المتوحشة واستكبارها. من يحسم الاتجاه بينهما؟ صراع القوة أم قوة الحق والابداع والمقاومة الشاملة؟ البشرية تنتظر.

فيروس كورونا

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات