آراء وتحليلات
استراتيجية مواجهة كورونا: نحو إدارة عالمية تعاونية لمواجهة الأزمات
د.علي مطر
منذ القدم تبرز النزاعات والصراعات والحروب بين الدول، ما يشكل تحديًا جمًا يتحول إلى أزمة حقيقية لأصحاب القرار في هذه الدول. ومع تطور النظام الدولي وتشكله بسماته الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ يطفو على سطح العلاقات الدولية بشكل أوسع مصطلح إدارة الأزمة الدولية كوسيلة لدرء وتلافي المواجهات العسكرية، ولكن لم يواجه هذا النظام في السابق حرباً تطال كل الدول دون استثناء، من عدو غير مرئي لا يمكن محاربته مثلما يحصل في ظل الحرب التي تخاض مع وباء كورونا، وهذا ما يدعونا إلى إعادة تعريف الأزمة الدولية، والبحث عن الوسيلة الأفضل والانجع لمواجهة هذه الأزمة.
يعود اصطلاح الأزمة إلى الفكر اليوناني القديم الذي يقصد بها نقطة تحول في الأمراض الخطيرة والقاتلة والتي تؤدي عادة إلى الموت المحقق أو الشفاء التام. وهذا المصطلح أصبح يستخدم فيما بعد كإشارة إلى الأزمات على الصعد كافة لا سيما السياسية والاقتصادية منها. وتُعرّف الأزمة بأنها حدّ يبلغه التناحر الدولي يؤدي إلى تعطيل سير النظام أو يحول دون تأديته لإحدى وظائفه.
وللأزمة الدولية مفاهيم متعددة منها: "إنها سلسلة التفاعلات المتبادلة بين حكومات دولتين أو أكثر ذات سيادة في صراع حاد دون مستوى الحرب الفعلية، ولكنه في الوقت نفسه ينذر باحتمال وقوع الحرب. ويشير روبرت نورث Robert North إلى ان الأزمة الدولية هي عبارة عن تصعيد جاد للفعل ورد الفعل، أي هي عملية انشقاق تحدث تغييرات في مستوى الفعالية بين الدول، وتؤدي الى إذكاء درجة التهديد والإكراه".
ويعرّفها "أوران يونغ" في كتابه الوسطاء بأنها أحداث سريعة تؤدي الى زيادة عدم الإستقرار في النظام القائم الى درجة غير عادية تزيد من احتمال استخدام العنف. أما (كورال بل) فإنها تعرّفها في كتابها (اتفاقيات الأزمة) بأنها ارتفاع الصراعات الى مستوى يهدد بتغيير طبيعة العلاقات الدولية أو بين الدول. إذاً، فالأزمة من الناحية الاصطلاحية هي تحول مصيري يصيب أمة ما أو دولة ما أو قد يصيب العالم بأسره.
وللأزمة عادة سمات يمكن تلخيصها، بـ(المفاجأة، وفقدان السيطرة على مجريات الأمور و الأحداث، التعقد والتشابك في الأمور أثناء حدوثها ونقص المعلومات، والتحول المصيري)، وهي بالتالي تحتاج إلى قرارات سريعة وجريئة ومدروسة، وتحديد الأهداف في مواجهتها، واستغلال عامل الوقت.
خضع العالم منذ ما بعد الغزو الأميركي للعراق، لشكل من الإدارة الدولية بجميع أطرافها ومكوّناتها، وليس من دولة واحدة في هذا الإقليم قادرة على ممارسة سيادتها واستقلالها كعضو فعّال في المجتمع الدولي، بل هناك نزوع لدى بعض الدول من أجل الاعتراف لها بخياراتها الداخلية المستقلة وبشيء من النفوذ الإقليمي، ما يمنع الاتفاق بينها من خارج ائتلاف جامع. لذلك بدأ طرح مفهوم الإدارة الدولية كفهوم حديث في العلاقات الدولية والتنظير الدولي، وقد طرح بشكل جدي لمعالجة العديد من الأزمات. لكن حتى الآن لا يزال استخدام مفهوم الإدارة الدولية قليلاً جداً، فلطالما رفضت الدول التنازل عن سيادتها من أجل اتحاد دولي يشكل مدخلاً لإدارة الملفات الحساسة التي تهم المجتمع الدولي، باستثناء تلك المنظمات والمجموعات التي تتشكل من قبل الدول الكبرى لرعاية مصالحها. فالدول ما زالت حتى الآن ترى أن لا سلطة تعلو فوق سلطتها أو تفرض عليها ما لا تريده. لذلك، فإن فكرة الإدارة الدولية لم تكن مطروحة على المستوى الدولي، باستثناء ما طرحه بعض المنظرين الذين يرون فيها حلاً للخلاص من المشاكل التي تواجه الكثير من الأزمات العالقة.
ومنذ أحداث "الربيع العربي" بالذات تشكلت رغبة دولية لتفعيل الأمم المتحدة بصفة عامة ومجلس الأمن الدولي على وجه الخصوص في مجال المحافظة على السلم والأمن الدوليين بعد حوالي نصف قرن من الشلل، من خارج الرغبة الأميركية الجامحة للسيطرة والهيمنة. هذه الرغبة تشكلت شيئاً فشيئاً بعد التحولات الناتجة عن سقوط الاتحاد السوفيتي، ما أخلى الجو للولايات المتحدة لبسط هيمنتها على الساحة الدولية، والتي دشنتها بالتبشير "بنظام دولي جديد" قائم على الاحادية القطبية.
ويعتبر رجل القانون والمفكر الليبرالي الإنكليزي جيريمي بنتام من أفضل المفكرين الذين أسسوا لاستخدام عبارة قانون دولي أو قواعد دولية، كذلك الفيلسوف ايمانويل كانت الذي نادى بجمهورية عالمية أو اتحاد عالمي للشعوب. أما بالنسبة إلى جان سموتس فإن خيار الاعتقاد بالعلاقات الدولية من خلال مصطلح الإدارة الدولية يسمح بإعطاء رؤى للأشخاص وللتفاعلات التي أهملتها الأدبيات الواقعية، ويجدد التفكير حول فكرة المجتمع الدولي.
مما تقدم نقول إن الدولة بصفتها عضواً في المؤسسات الدولية تقرر مع مجموعة الدول المبادئ والإجراءات التنفيذية في إطار الإدارة الدولية أو التحكم الدولي، وهي التي تتولى تنفيذ الاتفاقات وتطبيق القرارات الصادرة عن المؤسسات الدولية بموجب قوانين تصدرها في إطار اقليمها كونها ما زالت تتمتع تجاهه بالسلطات التشريعية والقضائية، وهي التي تنقل ارادة شعبها إلى المحافل الدولية. ولذلك، يمكن تعريف الإدارة الدولية بأنها نشاط يهدف لخلق تفاعل تنظيمي هادف على مستوى إقليمي أو دولي. ويمكن القول إن التعاون الدولي هو الخلفية القانوية للإدارة الدولية، وقد أوجدته الحاجة بهدف احلال السلام والأمن الدوليين. إن السياسة المعتمدة في دولة ما يمكن أن تنسحب بآثارها على الدول الاخرى.
يتجلى التعاون الدولي لإدارة الشؤون الدولية في مجال عمل المنظمات والمؤسسات الدولية التي يرتكز عملها بشكل أساسي ووفقاً لما جاء في مواثيقها إلى التعاون الدولي، حيث جاءت النصوص الدولية لتؤكد التعاون الدولي بطريقة مباشرة وواضحة. وهذا ما نلحظه بشكل واضح في ميثاق الأمم المتحدة. لكن سرعان ما تكشف الأمر عن عدم فعالية التعاون لإدارة الشؤون الدولية أو أقله إدارة الأزمات الدولية نتيجة محاولات الاستئثار، علماً أن التعاون يترك للدول مساحات أوسع من الحرية في اتخاذ القرار بالتعاون وبتحديد شكل هذا التعاون.
ويمكن للإدارة الدولية التي تحدثنا عنها أنفاً أن تفعّل من قبل التنظيم الدولي والمنظمات الدولية، حيث هناك ارتباط بين الإدارة الدولية والتنظيم الدولي، فهذه الإدارة لا تعمل خارج هذا التنظيم. وقد رافقت نظريات التنظيم الدولي، دعوات نحو إقامة حكومة عالمية للقضاء على الفوضى الدولية. لذلك نقول إنه بدلاً من الاستئثار من قبل أميركا وبدلاً من استخدام الإدارة الدولية كمفهوم لحل الأزمات الاقتصادية، الأفضل استثمارها بشكل ناجح اليوم في مكافحة وباء كورونا وذلك من خلال توحيد الجهود الإقليمية والدولية وترك الخلافات والتعنت السياسي جانباً لا سيما من قبل إدارة ترامب ذات العقلية الاستعلائية.
فإذا كانت الأزمة – كما رأينا- هي حالة يمكن أن توصف بالاقتراب من خروج الأمور عن نطاق التحكم والسيطرة، فإن مواجهتها ينبغي أن تتم بسرعة وبطرق ذكية وإجراءات رشيدة لتفادي تطور المواقف إلى نزاع مسلح مباشر، وهي العملية التي تدخل في إطار ما يسمى بإدارة الأزمات، وبالتالي فإنه استناداً لمضمون إدارة الأزمات والتي تعني الجهود المشتركة لمنع تفاقم الأزمات الدولية، فإن المجتمع الدولي المتمثل بالأمم المتحدة يمكن أن يتضامن اليوم ويقف فعلاً لمحاربة فيروس كورونا من خلال تفعيل الإدارة الدولية، وعدم الارتهان لقرار الولايات المتحدة الأميركية التي تغرق حالياً في فشلها بمواجهة هذا الوباء، فضلا عن فشل الدول الأوروبية في هذه المواجهة، على عكس دول أخرى نجحت نسبياً على رأسها الصين وروسيا وإيران التي باتت على مقربة من محاصرة الوباء وكذلك لبنان الذي يواجه هذا الوباء على الرغم من ضعف الامكانيات، وهذا ما بات يتطلب فعلاً التعاون في ظل هذه الأزمة العالمية التي تعصف بحياة الشعوب.
وبدلاً من ذهاب دونالد ترامب نحو تعليق التمويل الأميركي لمنظمة الصحة العالمية، فإن الأفضل عدم تضييع الوقت ومطالبة الدول بالإسراع في عقد جلسة لمجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، والاتفاق على إدارة دولية تشترك بها كل الدول لمواجهة الحرب التي تشن على العالم من قبل فيروس كورونا، أو من خلال تشكيل حكومة عالمية سريعة من أكثر الدول فعالية في مواجهة الوباء للتعاون في السيطرة عليه، والوقوف بوجه الهيمنة الأميركية في هذه اللحظة المصيرية من حياة الكرة الأرضية، حيث لا تنفع الإدارة الفردية في هذه المواجهة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024