آراء وتحليلات
عدوان 1996 أوّل طريق التحرير: "اسرائيل" في المأزق
جهاد حيدر
في تسعينيات القرن الماضي، شن جيش العدو عدوانا واسعا على حزب الله ولبنان استمر 16 يوماً، هدف من خلاله الى ردع مقاومة حزب الله واخضاعها، بهدف توفير احتلال آمن لما كان يُسمى في حينه "الحزام الامني". إلا أن استراتيجية حزب الله المضادة أسقطت أهداف العدوان وفرض معادلات ردع كبحت استمراره، ووفرت مظلة حماية للعمق اللبناني، وفرضت هامش حرية للمقاومة في المبادرة والرد، الأمر الذي أسس لاستمرار استنزاف الاحتلال وصولا الى تحرير العام 2000.
تعددت تكتيكات العدو في محاولاته لإسقاط المقاومة وإجهاضها خلال فترة احتلاله. وتطورت تلك التكتيكات بتطور معادلات المواجهة. فاعتمد سياسة الاغتيالات وبأساليب مختلفة... إضافة الى تعزيز إجراءاته الدفاعية والأمنية التي سلكت مسارا تصاعدياً في مواجهة تطور تكيكات وأساليب حزب الله. لكن نجاح حزب الله في مواصلة توجيه الضربات المؤلمة لجيش الاحتلال، وضع قيادة العدو في ذلك الحين أمام خيارين: إما التكيف مع استمرار النزف البشري نتيجة الخسائر المتواصلة في صفوف الجنود والاستنزاف المعنوي والأمني في شمال الكيان رداً على كل اعتداء يستهدف المدنيين، وإما البحث عن خيار عملاني بديل يُدمِّر قدرات المقاومة أو يردعها.
في ضوء هذا الواقع، راهن العدو على أن قدراته التكنولوجية والعسكرية لجيشه كفيلة بتحييد منصات إطلاق صواريخ الكاتيوشا، اضافة الى أن تدمير القرى وتهجير أهلها، كان يُفترض أن يؤدي الى انتاج حالة ضغط متصاعدة ضد استمرار المقاومة. وبحسب تقديرات العدو وخطته، كان يُفترض أن يضع ذلك حزب الله أمام خيارين: اما تلقي الضربات من دون القدرة على توجيه ردود موازية رادعة، أو وقف المقاومة حماية لأهلها وللعمق اللبناني. وهكذا نضج وتبلور قرار العدو بشن عدوان واسع على لبنان في نيسان 96... وقبله في تموز 1993 تحت اسم "تصفية الحساب".
لم يكن قرار العدوان في حينه، إلا ترجمة لاستراتيجية سبق أن أسس لها قادة العدو في خمسينيات القرن الماضي واستمرت طوال العقود التي تلت. فإلى جانب الاستراتيجية التي اعتمدها كيان العدو ضد الجيوش النظامية، بلور الجنرال موشيه ديان استراتيجية موازية لمواجهة تهديدات غير دولتية وفي مواجهة حركات المقاومة. استندت بحسب تعبيره الى "جني أثمان مؤلمة لدمنا" من المقاومين والمدنيين ومن جهات دولتية (جيش، منشآت، مؤسسات...). وهدفت هذه العقيدة الى تحقيق الردع بالتراكم. وتم تطبيقها عملياً في خمسينيات القرن الماضي، ردا على عمليات الفدائيين بارتكاب المجازر ضد القرى الفلسطينية... وايضا في مواجهة الاردن ومصر.
على المستوى العملي، لجأت اسرائيل الى العقيدة نفسها في مواجهة عمليات المقاومة، عبر استهداف القرى والمدن في الجنوب والبقاع وصولا الى الضاحية الجنوبية، بهدف تحويل المقاومة الى عبء على الشعب اللبناني، على أمل أن يساهم ذلك في انتفاضته على المقاومة.
بموازاة الرهان الميداني، راهن العدو ايضًا بأن يشكل الضغط العسكري رافعة لقيادات سياسية رسمية وغير رسمية، لبنانية وسورية في ذلك الحين، كي تتمكن من فرض وقف المقاومة بحجة حماية لبنان وقطع الطريق أمام "اسرائيل" الساعية لتدميره. وفي ذلك الكثير من التفاصيل التي ذُكرت في محلها. لكن احتضان الرئيس الراحل حافظ الأسد، للمقاومة وخيار التصدي للعدوان، كبح قيادات سورية ولبنانية، وأسقط رهانات اسرائيلية وأميركية، وحمى الجبهة الخلفية للمقاومة ووفّر لها مظلة إقليمية وداخلية، مكّنت المقاومة من التفرغ لمواجهة العدوان الإسرائيلي. ومن أجل اعطاء صورة ملموسة للجيل الذي لم يواكب تلك المرحلة، يكفي أن نقول إن الغربة التي واجهتها المقاومة خلال حرب العام 2006، واجه حزب الله ما يشبهها بأضعاف خلال عدوان نيسان 1996.
في مواجهة هذه التحديات، ارتكز حزب الله في استراتيجيته المضادة على الصمود السياسي، والصمود الميداني والرد الصاروخي على المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة. وعندما فشلت "اسرائيل" في الميدان بكسر هذه الحلقة، واكتشفت قيادتها السياسية والعسكرية، أنها كلما تمادت في العدوان، وطال أمده، كلما استمر دك المستوطنات وازداد عمقاً.. لم تجد أمامها سوى التسليم بالمعادلة التي فرضها حزب الله.
أبرز من أقرَّ وعبَّر عن استراتيجية حزب الله المضادة، بشكل صريح ومباشر، كان رئيس أركان جيش العدو غادي ايزنكوت، عندما كان يتولى قيادة المنطقة الشمالية، حيث تناول في كلمة له تلك المرحلة في احدى محاضراته، بالقول "حرص حزب الله جداً على ألا يطلق الصواريخ على بلدات إسرائيلية، إلا أن يكون ذلك رداً على عمليات إسرائيلية. وإذا لم تخنّي الذاكرة، فإن كل إطلاق الصواريخ على البلدات الإسرائيلية كان إثر عمليات للجيش الإسرائيلي اعتبرها حزب الله تجاوزاً لخط ما" (معهد أبحاث الأمن القومي/ نشرة الجيش والاستراتيجية / المجلد ــ 2 / حزيران 2010).
نتائج استراتيجية حزب الله
لم تقتصر انجازات استراتيجية حزب الله المضادة على الجانب الميداني، بل تجاوزت ذلك الى لعب دور تأسيسي لمفاهيم جديدة اخترقت العقل الامني الإسرائيلي. وتجلى ذلك على المستوى الرسمي وبألسنة وأقلام كبار الخبراء العسكريين في الكيان، ثم تجلت معالم ذلك في المعادلات التي تطورت لاحقاً، وحول ذلك حديث آخر.
أدى فشل العدو في توفير حل جذري للصواريخ التي استمرت بالتساقط على المنطقة الشمالية للكيان الإسرائيلي حتى اليوم الأخير من العدوان، الى تسليم صانع القرار في "تل أبيب" بمعادلة الردع التي فرضها حزب الله وتجسدت بتفاهم نيسان. وانتزع حزب الله في ذلك الحين ايضا إقراراً دولياً بحق المقاومة في استهداف جنود الاحتلال، عبر اللجنة التي تشكلت للإشراف على تنفيذ التفاهم، بمشاركة الولايات المتحدة وفرنسا إلى جانب سوريا ولبنان،
نجح حزب الله في تحويل مستوطنات الشمال إلى قيد على حركة جيش الاحتلال الذي بات مضطراً إلى أن يأخذ في الحسبان إمكانية استهدافها كلما طُرح على طاولة صانع القرار السياسي والأمني خيارات عدوانية واسعة في لبنان.
انكشفت مردوعية جيش العدو عن خيار العدوان البري. حيث يلاحظ أن جيش العدو عندما فشل في إخضاع صواريخ حزب الله عبر الجو والنيران عن بعد، لم تجرؤ القيادتان السياسية والامنية على اتخاذ قرار بشن هجوم بري بهدف الوصول الى منصات الصواريخ من خلال قواتها العسكرية. وكان ذلك مدوياً في دلالاته كونها عكست خشية القيادة الإسرائيلية من خطوات تُعمِّق مأزقها في المستنقع اللبناني.
نجح حزب الله في تقويض شرعية الاحتلال بنظر الجمهور الاسرائيلي. حيث كان يُسوَّق وسط الجمهور الاسرائيلي، أن كلفة الاحتلال تأتي ضمن سياق الحفاظ على "الحزام الامني" لشمال الكيان. لكن استراتيجية حزب الله الصاروخية، قوَّضت هذه المشروعية، عبر الرد على أي اعتداء اسرائيلي يتجاوز خطوطا معينة (كما أقر بذلك ايزنكوت) الى دافع لاستهداف المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة. وبذلك نجح حزب الله في تحويل الاحتلال الى سبب لتدهور أمن مستوطنات الشمال، بدلاً من أن يكون حزاماً أمنياً لها.
وهكذا تدرج نضوج قادة العدو في ادراك حقيقة أنهم أصبحوا أمام مأزق مركب، مأزق تحمل كلفة الاحتلال، ومأزق تحمل كلفة العدوان، ومأزق تداعيات أي قرار بالاندحار من الاراضي اللبنانية. وما كان ذلك ليتبلور لولا نجاح حزب الله في فرض معادلته بمواجهة عدوان نيسان 1996، وقبله عدوان تموز 1993، وقبله اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد عباس الموسوي في شباط 1992، ومعهم العديد من المحطات المفصلية الأخرى. وفي ظل هذه المعادلة، نجح حزب الله في حماية العمق اللبناني والعمق الاستراتيجي للمقاومة التي واصلت استنزاف العدو في المنطقة المحتلة، وفي شمال فلسطين المحتلة، وصولا الى نضوج شروط التحرير في العام 2000.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024