آراء وتحليلات
التباينات الأميركية - التركية في سوريا: أنقرة تفوز
شارل ابي نادر
في متابعة لمسار العلاقة الأميركية - التركية بشكل عام، وفي موضوع سوريا وأكرادها بشكل خاص، كان دائماً هناك غموض وتناقض بين ما يجري من اشتباك اعلامي وديبلوماسي حاد، وبين ما كان يجري على الأرض من توافق أو شبه انصياع لما تريده تركيا. وصحيح أن مسار هذه العلاقة كان يترنح دائماً بين الاتهامات المتبادلة والتصريحات القاسية والتهجمات الكلامية غير العادية، ليتوج في النهاية بتنفيذ المخطط التركي الأساسي، فهل يؤشر ذلك الى سيطرة تركية على الاميركيين في ادارة الملف السوري وضمنا الكردي أم يؤشر الى تبادل أدوار وتفاهم مبطن حول استراتيجية مشتركة على الأقل في الملف السوري؟
انطلاقاً من مسار جريمة الحرب في سوريا وعليها، لم يكن الدور التركي فيها بأقل من مساهم أساسي، يمكن اعطاؤه أكثر من صفة جرمية، كمُحَرِّض لعب دوراً أساسياً في تحريض "المعارضة السورية" على النظام والدولة في سوريا، وكانت خطابات اردوغان ملهمة للكثير من "فصائل المعارضة المسلحة" في سوريا، والتي ظهرت لاحقاً على حقيقتها الارهابية المرتبطة بالخارج، توجهاً وعقيدةً والتزاماً. ايضا يمكن اعطاء الدور التركي صفة جرمية كشريك للفاعل الذي قاتل الدولة والجيش والشعب في سوريا، والذي هو الفصائل الارهابية بمختلف أشكالها والوانها. ويمكن اعطاء تركيا كذلك في هذه الجريمة صفة المتدخل الأساسي، الذي لا يختلف في مسؤوليته الجرمية كثيراً عن الفاعل الأساسي، حيث وفر للفاعل عبر دوره أغلب أو معظم وسائل الجريمة من عديد وعتاد وخبرات ومعابر.
طبعاً لا يمكن اليوم، رغم انخراطها في تحالف أو توافق أو حوار مع روسيا ومع ايران، أن ننزع عن تركيا دور المسؤول الأول في جريمة الحرب على سوريا، وقد تكون موسكو وطهران قد رأتا في هذا التلاقي مع تركيا اليوم حول سوريا، استراتيجية ذكية وضرورية لا بد منها، لمحاولة ايجاد مقاربة معقولة لحل الأزمة السورية بمساعدة تركيا ، نظراً لما تملكه الأخيرة من قدرات "سلبية"، ممكن أن تؤثر بشكل فعال على الحل لو أبعدت هذه القدرات، أو على تأزيم الوضع وانهياره فيما لو استعملتها (القدرات السلبية).
قد تكون عناصر التأثير السلبي التركي في الملف السوري والتي شكلت هذه الحاجة الروسية - الايرانية لتركيا في الملف الاخير، هي نفس العناصر والقدرات السلبية التي ادارت العلاقة الاميركية - التركية حول الملف السوري، والتي تخلق هذه السيطرة لتركيا في استراتيجيتها بمواجهة الاستراتيجية الاميركية في سوريا. وربما قد تحتاج واشنطن هذه القدرات التركية السلبية اكثر من موسكو ومن طهران، للتاثير في سوريا، وايضا للتأثير في العراق وايران وفي كل من افغانستان وباكستان، وربما في أمكنة بعيدة شرقاً قد تمتد الى روسيا ومحيطها من دول الاتحاد السوفياتي سابقا، والمتقاربة عقائديا وثقافيا مع تركيا، كداغستنان وجورجيا والشيشان والقوقاز وغيرها.
من هنا، يمكن أن نستنتج معادلة تحقق الأجندة التركية في النهاية، في أي ملف تشابك أو تصادم ( اعلامي - ديبلوماسي - إستراتيجي اميركي - تركي. ويمكن تحديد أهم هذه الملفات، كالتالي :
الملف الاول ظهر بعد تقدم الدولة السورية شمالا وتحريرها مدينة حلب في نهاية العام 2016 ، ومعارضة الاميركيين لانسحاب مسلحي وارهابيي الفصائل من حلب، على عكس الاتراك الذين سهلوا هذا الانسحاب الذي تحقق، والذين استغلوا هذا التسهيل لبناء أول مدماك في التقارب مع روسيا وايران، ما أدى الى اتفاق استانة ولاحقا سوتشي، وتراجع الدور الاميركي في الملف السوري، على الاقل في شمال سوريا، ليكون في عهدة الثلاثي الروسي الايراني التركي.
الملف الثاني الذي تفوقت فيه الأجندة التركية على الاميركية في سوريا هو ملف درع الفرات، والذي تم عبره دحر "داعش" من شمال حلب ما بين جرابلس والباب وأعزاز بواسطة فصائل تركية الهوى، هذا الملف الذي كانت تريده واشنطن مفتوحا ومؤذيا للدولة السورية، تماما مثلما أرادت وثبتت هذا الجرح الباقي حتى الآن عبر "داعش" في شرق الفرات.
الملف الآخر الذي اثبت سيطرة الاجندة التركية بمواجهة مثيلتها الاميركية في سوريا هو ملف عفرين وتهجير اكرادها في عملية غصن الزيتون، وتسهيل سيطرة فصائل مسلحة سورية عربية تركية الهوى على قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردي، وهما فصيلان يمثلان عماد القوات البرية السورية الحليفة لواشنطن في الشمال والشرق السوري، وايضا بعد مواجهة واشتباك حاد بين انقرة وواشنطن، استسلمت الاخيرة لاردوغان وظهرت بموقف المتواطىء وغير الحامي لحلفائها، وتحققت اجندة انقرة.
الملف الاخير، والذي كما يبدو فرضت تركيا أجندتها فيه أو على الطريق لفرضها، هو ملف الشرق السوري بعد الانسحاب الاميركي المرتقب منه، والذي شهدنا حوله اشتباكاً إعلامياً وديبلوماسياً غير مسبوق بين الاتراك والاميركيين، حيث توصل الرئيس الاميركي دونالد ترامب الى التهديد صباحا بتدمير الاقتصاد التركي، وغرّد مساء بعد تواصل مع اردوغان بموافقته على منطقة آمنة على كامل الحدود بين تركيا وسوريا وداخل الأخيرة، تماماً كما كانت تطالب دائما تركيا، تكون باشراف واخراج تركي صرف كما يبدو ايضا، ودائما في اطار تأكيد المعادلة التي تقضي بسيطرة الأجندة التركية على الاميركية في سوريا.
وأخيراً، لا يمكن التفريق بين أمرين، الأول: سيطرة الأتراك على الاميركيين في استراتيجية ادارة الحرب في سوريا وعليها، والثاني: التواطؤ الأميركي - التركي على تبادل الأدوار والتفاهم الضمني على استراتيجية وعلى أهداف مشتركة بين الطرفين في سوريا، وبالنهاية تكون النتيجة نفسها، مساهمة أساسية من الطرفين في جريمة الحرب على سوريا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024