آراء وتحليلات
انهيار أسعار النفط وانقلاب السحر على الساحر
جورج حداد
تعرضت مؤخرًا أسعار النفط للانهيار الشديد الذي لم يسبق له مثيل منذ سنة 1991. فيوم الاثنين 9 اذار الجاري بدأت السعودية حرب الاسعار ضد روسيا، حيث خفضت أسعار البيع وتوعدت انها ستلجأ الى استخدام مخزونات احتياطاتها النفطية وزجها في السوق المهتزة بفعل انخفاض الطلب بسبب وباء الكورونا، كما اعلنت وكالة رويترز.
وقد انخفض سعر برميل برنت بنسبة 31.5 %، اي بـ 25،14 دولارا ووصل الى 31،02 دولارا للبرميل. ويعتبر ذلك اكبر انخفاض منذ 17 كانون الثاني 1991 عند بداية حرب "عاصفة الصحراء" في الخليج لاخراج قوات نظام صدام حسين من الكويت.
وانخفض سعر برميل غرب تكساس بنسبة 27،4 %، اي بـ 11،28 دولارا ووصل الى 30 دولارا للبرميل. وهذا هو ادنى سعر له منذ حرب "عاصفة الصحراء".
وحسب توقعات بنك الاستثمارات الاميركي Goldman Sachs فإن الانخفاض يمكن ان يصل الى 20 دولارا للبرميل.
وتقول وسائل الاعلام ان السعودية، اكبر مصدّر للنفط في العالم، تحاول ان تعاقب روسيا، ثاني اكبر المصدرين في العالم، لان روسيا رفضت اجراء تخفيض اضافي في الانتاج كما اقترحت منظمة اوبيك.
روسيا ردّت على ذلك بأن اقتراح تخفيض الانتاج هو عديم المعنى. وعلق على ذلك ميخائيل ليونتييف، الناطق الصحفي باسم شركة "روسنفط" قائلا ان هذا الاقتراح يعني "ان تساهم روسيا باخلاء السوق عن طريق تخفيض كميات النفط الروسي والعربي الرخيص، لفتح الطريق امام النفط الصخري الاميركي مرتفع السعر". ووصف هذه العملية بانها "مازوشية". واضاف ممثل "روسنفط" قائلا "ان المهمة القائمة امام روسيا الان هي التسييل النقدي لمواردها الطبيعية الغنية".
من جهة ثانية، أدى الانخفاض الدراماتيكي لاسعار النفط ومضاعفات وباء كورونا الى انخفاض اسعار الاسهم في البورصات العالمية. وقد انخفض سعر السهم الاوروبي العام Stox 600 بنسبة 6،8 %. وانخفض مؤشر بورصة لندن FTSE 100 بنسبة 8،5 % بسبب الخوف من حدوث ركود عالمي. وفي فرانكفورت بالمانيا انخفض مؤشر Dax بنسبة 6،61 %. وانخفض مؤشر CAC 40 الفرنسي بنسبة 6،78 %. وشهدت جميع البورصات العالمية انخفاضات متفاوتة.
وهذا الانخفاض لم يحدث بشكل مفاجئ كصاعقة في يوم صيفي وسماء صافية، بل حدث نتيجة تراكمات للسياسة التسلطية للولايات المتحدة الاميركية. وهذا ما نحاول النظر فيه فيما يلي:
في النصف الثاني من القرن الماضي بدأ الانتاج الخاص لاميركا من النفط يتضاءل بسبب استنفاد مكامن النفط الاميركية. وبدأت اميركا تخزن المزيد من النفط المستخرج والمستورد من دول الخليج العربية وايران الشاه وفينزويلا ونيجيربا وغيرها وتوسع احتياطاتها الاستراتيجية من النفط الذي كان يمثل المصدر الاول والاكبر للطاقة، اميركيا وعالميا. ومنذ ذلك الحين بدأت ترتسم في الافق ملامح ازمة الطاقة العالمية. ومع انتصار الثورة الاسلامية والاطاحة بنظام الشاه في ايران سنة 1979 اطل شبح ازمة الطاقة على الابواب، واصيبت الكتلة الامبريالية الغربية ولا سيما الاميركية بالهلع. وفي خلال اقل من سنتين "دوزنت" اميركا حرب صدام حسين ضد الجمهورية الاسلامية الايرانية، التي اندلعت في ايلول 1980 واستمرت حتى اب 1988. وكان واضحا تماما ان الهدف الرئيسي لتلك الحرب هو اسقاط النظام الثوري الاسلامي الايراني واعادة وضع اليد على المخزون النفطي لايران. وحصل نظام صدام حسين في تلك الحرب على الدعم المالي الكثيف من دول الخليج النفطية.
ولكن النظام الثوري الايراني لم يسقط، وبالضد من ذلك بدأ يلوح في الافق شبح انهيار الانظمة النفطية والدكتاتورية العربية الموالية او المهادنة لاميركا. وفي الوقت ذاته كانت روسيا الجديدة، القومية ـ الاورثوذوكسية، بقيادة بوتين، ترفع رأسها من جديد، بوجه استراتيجية الهيمنة العالمية لاميركا. وقد نفضت روسيا الجديدة الغبار عن اسلحتها الستراتيجية والنووية الموروثة من العهد السوفياتي وقامت بتجديد وتحديث قواتها المسلحة وجميع اسلحتها ولا سيما الصاروخية، ودخلت بقوة في سوق الطاقة العالمي، بالنفط والغاز معا.
وفي الوقت ذاته كان العملاق الصيني يتقدم بثبات لينتزع من اميركا مركز الصدارة في حجم الاقتصاد.
كما ان النظام الثوري الايراني عمل على تطوير الدولة الايرانية اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا وعسكريًا بحيث تحولت ايران الثورة الى لاعب رئيسي على الساحتين الشرق أوسطية والدولية.
وفي ظل هذه الأوضاع الحرجة للامبريالية الغربية والاميركية رفعت الادارة الاميركية شعار "اعادة تشكيل شرق اوسط كبير جديد"، وشنت الحرب الاميركية الاولى ضد العراق، ثم الحرب الافغانية ثم الحرب الاميركية الثانية ضد العراق ثم العدوان الاسرائيلي الوحشي ضد المقاومة في لبنان سنة 2006. وكل ذلك بقصد الاحتلال الاميركي المباشر للمنطقة بمكامنها وممراتها النفطية.
ولكن هذه الحروب الغاشمة كلفت اميركا الوف مليارات الدولارات دون ان يحالفها النجاح في فرض الاحتلال والسيطرة الاميركية المباشرة على المنطقة وشعوبها. وبنتيجة ما تكبدته أميركا من خسائر مالية واقتصادية هائلة انفجرت الازمة المالية ـ الاقتصادية في اميركا سنة 2008، التي تحولت الى ازمة مالية ـ اقتصادية عالمية. وقد نجحت اميركا في كبح الازمة ومنع تفاقمها في اميركا بطريقتين:
أولًا، عن طريق رفع سقف الدين العام للدولة الاميركية المفلسة، اي طباعة كميات ضخمة جديدة من الدولار الورقي (المقبول دوليا) بدون تغطية ذهبية.
وثانيًا، عن طريق الشروع في فرض العقوبات الاقتصادية ضد روسيا وايران، وفي ابتزاز الاقتصاد العالمي بأجمله عن طريق "الهندسات المالية" للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الخاضعين لأميركا بالدرجة الاولى، واللذين ينفذان سياستها للهيمنة على العالم.
وقد دفعت العقوبات والضغوط الاميركية الشديدة كلا من روسيا وايران الى التقارب والتعاون الوثيق فيما بينهما على مختلف الصعد المالية والتجارية والاقتصادية والعسكرية، بالرغم من الاختلاف السياسي والايديولوجي والديني في تركيب نظامي البلدين. وأعطى هذا التعاون مفاعيله الخاصة على الصعيد العسكري وعلى صعيد تقليص الآثار السلبية للعقوبات الأميركية لا سيما لجهة تسويق النفط. ومن جهة ثانية عمدت روسيا وايران ـ كلّ من جانبها ـ الى تفعيل وتطوير وتوسيع التقارب والتعاون مع العملاق الصيني، لا سيما على صعيد تصدير النفط والغاز، ما اسفر عن تقليص المفاعيل السلبية للعقوبات والحصار الاميركيين، والاهم انه ادى الى نشوء نواة محور عالمي كبير وقوي عسكريا واقتصاديا نسميه مجازا "المحور الشرقي الجديد" وتتألف نواته من روسيا والصين وايران وكوريا الشمالية وفينزويلا.
ومنذ مطلع القرن الواحد والعشرين ومحور السياسة الدولية بدور حول الصراع بين الامبريالية الاميركية واليهودية العالمية وحلفائهما واذنابهما وبين هذا "المحور الشرقي الجديد".
وقد صعّدت الادارة الاميركية – ولا سيما في عهد ترامب – النزاع مع "المحور الشرقي الجديد" الى الذروة بحيث ان العالم اصبح يقف تماما على حافة الحرب العالمية الثالثة.
ولكن الجبهة الامبريالية الاميركية ـ اليهودية فشلت الى الان فشلا ذريعا في الاطاحة بالنظام الثوري في فينزويلا، وفي اخضاع كوريا الشمالية، وفي كسر شوكة ايران الثورية والهيمنة المريحة على منطقة الشرق الاوسط، وفي الحصار والعقوبات الاقتصادية ضد روسيا وايران، وفي الحرب التجارية ضد العملاق الصيني.
والان يقول بعض الخبراء ان الاسباب الرئيسية للازمة النفطية ـ البورصوية الراهنة هي:
ـ1ـ الانعكاسات الاقتصادية لوباء كورونا.
ـ2ـ نجاح روسيا في ادخال الغاز الروسي الى اوروبا بالرغم من الحصار والعقوبات الاقتصادية.
ـ3ـ تغويز (التحول الى الغاز) الاقتصاد العالمي بدلا من النفط.
ـ4ـ تحول اميركا الى انتاج "النفط الصخري" و"الغاز الصخري" وتوقفها عن استهلاك النفط المستورد من خارج اميركا.
كل ذلك هو صحيح بهذه الدرجة او تلك.
ولكن الصحيح اكثر ـ في رأينا المتواضع ـ هو ان هذه الازمة (ازمة فيض انتاج النفط على حاجات السوق) هي ازمة مفتعلة شرعت بها السعودية بايعاز من الامبريالية الاميركية واليهودية العالمية في محاولة فاشلة لخنق روسيا وايران اقتصاديا من ضمن الحرب التي تشنها الامبريالية الاميركية واليهودية العالمية لكسر شوكة "المحور الشرقي الجديد" واخضاعه.
ولكن هذه الحرب الجديدة ستصاب بالفشل الذريع للاسباب التالية:
أ ـ
ب ـ
ج ـ ان الانخفاض الشديد لأسعار النفط وانعكاسه السلبي على البورصات العالمية وهبوط أسعار مختلف الأسهم سيسفر عن نتيجة مريعة بالنسبة لاميركا وهي التخفيض الشديد للحاجة الدولية الى الدولار، وهذا يعني توجيه أكبر ضربة مميتة لدولرة الاقتصاد العالمي منذ الحرب العالمية الثانية، ويعني انهيار اسعار الدولار امام جميع العملات الاخرى، واستشراء التضخم داخل اميركا. أي أنه سينقلب السحر تماما على الساحر وهو ما يمثل كابوسا حقيقيا للامبريالية الاميركية واليهودية العالمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024