آراء وتحليلات
اتفاق أستانة إنجاز سوري: عودٌ على بدء
عبير بسام
بعدما اخذت القيادة السورية على عاتقها تنفيذ اتفاق أستانة الذي فشل الأتراك أو ماطلوا في تنفيذه منذ العام 2017 وحتى اليوم، يبدو أن الاتفاق في إدلب بات ساري المفعول، ومن المفترض وبحسب الإتفاق، أن يقيم الأتراك في الأيام المقبلة ما يسمى "منطقة خفض التصعيد"، وتكون الضامن لها كل من تركيا وروسيا، لمدة لا تتجاوز الستة أشهر، وبشكل لا يمس السيادة السورية على أراضيها. أي أنّه في هذه الحالة يحق للسوريين التدخل في حال شعرت الدولة السورية أنّ هناك خطراً على أمنها وأمن مواطنيها، وبالتالي لن يكون هناك سماح بالتدخل في شؤونها الداخلية أو الخارجية.
لجوء الدولة السورية لممارسة حقها في الدفاع عن المدنيين في حلب والذين تعرضوا وبشكل متكرر لنيران الجماعات الإرهابية، هو ما يفسر هذا الكلام، اذ كان من المفترض أن تلعب تركيا دورها في حفظ النظام وأن تمنع هجمات الإرهابين على المناطق المحررة. وأما إطلاق يد الإرهابيين في حلب، وقصف كل من القوات الروسية والجيش السوري في إدلب، فكانا القشة التي قصمت ظهر البعير، واستنفدت الصبر بالتعويل على التركي من أجل تنفيذ اتفاق أستانا، وكانت ورقة التركي الغبية للضغط على روسيا للقبول بشروطه لإيجاد مبرر مشروع لوجوده في ليبيا، الأمر الذي لم يقبل به الروسي. وتحرُّك الجيش السوري وإنجازاته من أجل تحرير محافظة إدلب وغربي حلب في آن واحد وضع التركي في موقف عاجز، فسوريا قالت كلمتها.
في الأمس القريب، حشدت تركيا في سوريا 70 دبابة وحوالي 200 مدرعة و80 مدفعاً، لم يعرف بعد إذا ما كانت لحماية الإرهابيين فقط، أم للدخول بشكل مباشر في الحرب لإعاقة تقدم الجيش السوري في حلب وإدلب. ومن المعلوم أنّ التصريحات الروسية رفضت التفاوض حول تقدم الجيش السوري في حلب، فهي لا تمانع على ما يبدو المضي في اتفاق أستانا المتعلق بإدلب، والذي يدعو إلى تصنيف الفصائل المعارضة وإنهاء القوى الإرهابية وحصر الإرهابيين في مناطق محددة تمهيداً لتسوية أوضاعهم.
تتجلى الأزمة التركية الحقيقية في الموضوع أنها تريد المضي قدماً في تنفيذ اتفاقها مع الأميركي في شرق الفرات لإقامة منطقة عازلة، اذ تأمل بأن ذلك سيمكنها من إعاقة إنشاء منطقة كردية بحماية أميركية على حدودها مع سوريا، هذا من جهة، ومن جهة ثانية تريد تركيا أن تضغط على أوروبا من أجل تحقيق مكاسب في غاز المتوسط والذي يقف ضده كل من الروس والأوروبيين في ليبيا وفي منطقة قبرص واليونان. ولكن هذا يتنافى مع اتفاق أستانة في شقه الأول لأنه يعتبر احتلالاً وتقويضاً للسيادة السورية على كامل أراضيها، مما يضع تركيا بين السندان الروسي المطالب بتنفيذ أستانه كاملاً وما بين المطرقة السورية التي بات يحق لها أن تتعامل مع تركيا كقوة احتلال إذا ما استمرت بالتعزيزات في داخل أراضيها وبدعم الإرهابيين، خاصة إن لم تلنزم باتفاق أستانة.
على الرغم من الحشد التركي، ما يزال الجيش السوري مستمراً في المعارك باتجاه تحرير ريف حلب الغربي، من أجل تأمين مدينة حلب، المركز الصناعي الهام. ولكن من الضروري تأمين أوتوستراد حلب اللاذقية، أو ما يسمى بطريق M4، تماماً من أية ضربات إرهابية، فهي الطريق التي ستسلكها البضائع الحلبية باتجاه ميناء اللاذقية من أجل تصديرها. وبالتالي فقد كان هدف السوريين الأساس هو الوصول إلى مدينتي أريحا وجسر الشغور من أجل تأمين الأوتوستراد. والسوري ليس في عجلة لتحرير مدينة ادلب في هذه المرحلة، اذ إن ما يعنيه في المرحلة التالية، التوجه نحو إعادة البناء في كل من درعا وغوطة دمشق. فالمنطقتان هما مصدر الأمان الغذائي لسوريا، وهما أيضاً إلى جانب مزارع حمص مصادر رئيسية لتصدير المنتوجات الزراعية والألبان إلى دول منطقة بلاد الشام والعراق مجتمعة وإلى أبعد من ذلك، وهذا ما يفسر حجم التحضيرات لعودة أهالي ريف دمشق.
وعلى الصعيد الروسي صحيح أن صفقة صواريخ الأس 400 مع التركي قد تمت، وأن الرئيس بوتين قام في 8 كانون الثاني/يناير 2020 خلال زيارة استانبول بافتتاح خط غاز " السيل التركي" إلا أن خط الغاز يعتبر حاجة تركيا أكثر منه حاجة روسيا، خصوصاً بعد الاتفاق على تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا والذي كان مرضياً للطرفين. كما أن العلاقة مع سوريا ذات بعد إستراتيجي عميق بالنسبة لروسيا لا تنسجم مع نزوات اردوغان ومطامعه في سوريا وغاز شرق المتوسط وفي ليبيا. وبالتالي ليس هناك قناعة روسية بوجوب امتصاص الضغوط التي يحاول فرضها أردوغان في سوريا في هذه المرحلة، ولجمه هو جلّ ما ستتمخض عنه المخابرات الهاتفية ما بين بوتين وأردوغان.
وأما على صعيد العلاقة المتذبذبة مع واشنطن، والتي تبحث عن تابع لها في تركيا، فأمريكا مكتفية بالحليف الإسرائيلي في المنطقة، فلا يبدو أن هناك آفاقاً مؤاتية، خاصة وأن واشنطن تسعى وراء بناء دولة أو فيدرالية كردية في شرق الفرات، وهذا ما تعارضه أنقرة. وما دامت أمريكا تسيطر على شرق الفرات فلن تسلم إدارة النفط السوري لتركيا وإنما ستبقيه استثماراً جارياً للشركات الأميركية. ومن السذاجة أن يبقى التركي على اعتقاده بأنه حليف فريد من نوعه بالنسبة للأميركي، هو، في أحسن الأحوال، حاجة ضرورية لإبقاء المنطقة مشتعلة، اذ تأمل أمريكا عبره التصعيد باتجاه فتح جبهة ما بين تركيا من جهة، وما بين الروس والإيرانيين من جهة أخرى، كما صرح مصدر خاص. وينسجم ذلك مع تصريح أردوغان عن دعم مجموعة من الدول الأوروبية لأنقرة في حال لجأت إلى الحل العسكري.
وأخيراً، الانتصارات التي حققها الجيش العربي السوري في عملياته الأخيرة في شرق إدلب وغربي حلب أدت إلى فرار الإرهابيين وعائلاتهم باتجاه الحدود التركية وقد عبر إلى تركيا المزيد من اللاجئين الذين تعتبر أنقرة استمرار تدفقهم تهديداً للأمن القومي التركي، وتلوح بهم كورقة لتهديد أوروبا في حال عدم الاستجابة إلى مطالبها ودعمها في مواقفها في سوريا وحتى في ليبيا. وهو سلاح ذو حدين. فكما يمكن لتركيا التهديد بتمرير اللاجئين إلى أوروبا، يمكن لسوريا طمأنة الأوروبيين بوقف عملية النزوح إلى قارتهم العجوز في حال تم دعم الدولة السورية في حربها على الإرهاب وتمرير المساعدات الإنسانية والإقتصادية إلى سوريا اللازمة لإعدة الإعمار، وإعادة العلاقات الدبلوماسية لتسهيل عودة النازحين.
اليوم تبدو اللعبة كعض الأصابع ما بين التركي الذي يدفع نحو مناطق عازلة يسيطر عليها من خلال المجموعات الإرهابية المسلحة، والسوريين الجادّين في حربهم على الإرهاب من أجل تحرير سوريا من الإرهابيين ومن الأتراك. واليوم على الضامن التركي الذي يلعب على الحبال ما بين الروسي والأميركي والأوروبي من أجل الحصول على مكاسب إضافية، الالتزام بأستانة بشكل كامل، وإلا فإن قدميه ستعلقان ما بين الحبال مجتمعات، لأن الغلبة ستكون بالتأكيد لمصلحة أهل الأرض، أصحاب القضية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024