آراء وتحليلات
سقوط النظام العالمي "الليبرالي" لاميركا
جورج حداد
منذ أيام قليلة وقف دونالد ترامب على المنصة أمام وسائل الاعلام العالمية، وكأنه مارد الفانوس السحري، أو يهوه التوراتي، ليعلن عما يسمى "صفقة القرن"، والتي تنص أنه يهب القدس وفلسطين والجولان للجزار بنيامين نتنياهو وشعبه المختار، مقابل 50 مليار دولار سيدفعها شيوخ النفط العرب، وليفعل "شعب يهوه المختار" بالشعب الفلسطيني كما أوصت به التوراة اليهودية ضد الكنعانيين سكان فلسطين الاصليين، وكما فعل "رواد الحضارة الاوروبية" الكولومبوسيون بالهنود الحمر سكان أميركا الاصليين.
ولكن حينما كان ترامب يقدم عهده الترامباوي لليهود، كان الفلسطينيون، شيوخًا وأطفالًا، رجالًا ونساءً يتظاهرون في الساحات العامة على مرأى من جنود الاحتلال الاسرائيلي ويهتفون ضد "صفقة القرن" ويحرقون العلمين الأميركي والاسرائيلي وصور ترامب ونتنياهو ويدوسونها بالاقدام.
وهذا هو رد الشعب الفلسطيني على الوعود لليهود، من وعد يهوه الى وعد بلفور الى وعد ترامب.
إن هذا الاعلان الاحتفالي لـ"صفقة القرن" يمثل قمة السقوط والفشل للنظام العالمي "الليبيرالي" لأميركا، ولا سيما في عهدها الترامباوي.
وفي تشرين الاول 2017 كانت New York Times الاميركية قد كتبت باهتمام خاص عما يسمى ""المانيفيستو الالماني" الذي وضعه عدد من خبراء السياسة الدولية الالمان. وهو يشير إلى أن أعمال الرئيس ترامب تضع علامة استفهام حول "النظام العالمي الليبيرالي" لاميركا. وحسب رأي واضعي "المانيفيستو" فإن انتخاب دونالد ترامب "وجه ضربة شديدة للاسس النظامية لليبيرالية الغربية".
وردًا على المانيفيستو دعا الباحث الاميركي جوش بوبسي زملاءه الالمان الى الاعتراف بأن أزمة النظام العالمي الليبيرالي لأميركا انما بدأت قبل مجيء ترامب الى السلطة، وأن مجيء ترامب بالذات هو نتيجة لهذه الأزمة. وهو يعتبر أن العودة لهذا النظام لم تعد ممكنة، وأن أوروبا عليها أن تتكيف مع الوقائع الجديدة في السياسة الدولية.
إن نظرية بوش الابن، التي تشكلت سنة 2002 والتي استخدمت لتبرير اجتياح العراق سنة 2003، هي مثال على السياسة الدولية الاميركية، التي كانت تهدف الى بناء نظام عالمي جديد لأميركا.
وفي مطلع التسعينيات من القرن الماضي اعتبر الكثير من الباحثين الاميركيين أن الولايات المتحدة الاميركية تمتلك امكانيات كبيرة لبناء نظام عالمي جديد "ليبيرالي". وانتشر في الغرب على نطاق واسع الرأي القائل ان التشكلات السياسية وصلت الى نقطة لم يعد من الممكن معها وجود بديل للنظام العالمي بقيادة اميركا. وفي ذلك الوقت كانت الصين في بداية نهضتها. وطوال حقبة التسعينيات كانت روسيا في حالة ضعف مستمرة. وكل ذلك عزز الفكرة في الغرب أنه لا يمكن الوقوف بوجه الهيمنة الاميركية "الليبيرالية". وهذه الفكرة جرى تكريسها في المؤلف الاساسي لفرنسيس فوكوياما حول "نهاية التاريخ".
وحينذاك فإن قلة فقط من الباحثين توقعت أنه بعد سنوات قليلة (خلال الـ2000) فإن مشروع الهيمنة "الليبيرالية" لأميركا سيبدأ بالانهيار.
وبعد سنة 2005 بدأ نظام الهيمنة الاميركية يصطدم باخفاقات جدية، واخذ في التآكل. وفي هذا السياق تندرج اخفاقات أميركا وحلف الناتو في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها. كما يندرج اخفاق اميركا الفاضح كوسيط "سلمي" وحيد بين "اسرائيل" ومنظمة التحرير الفلسطينية، والذي تمخض عن الانحياز الاميركي الكامل للمشروع الامبريالي ـ التوراتي ـ الصهيوني.
ويعتبر بعض الباحثين الأميركيين أن مجيء ترامب الى السلطة عمّق الثغرات في نظام الهيمنة العالمية لأميركا. ويبدو ذلك في فشل سياسة العقوبات والعداء الاميركي ضد روسيا والصين وايران، كما في تمايز وتدهور العلاقات الاميركية مع الاتحاد الاوروبي ولا سيما مع المانيا وفرنسا.
كما يبدو هذا الفشل في الاضرار الفادحة التي تسببت بها الازمة المالية سنة 2008، والتي أدت الى تدهور معيشة مئات ملايين البشر، بما في ذلك داخل أميركا بالذات، وهو ما كشف عجز آليات عمل نظام الهيمنة الاميركية على العالم.
وليس من الصدفة أن الكثير من الباحثين الأميركيين بالذات أخذوا يظهرون القلق والخوف على مصير "الديمقراطية" داخل أميركا بالذات. ويقول احد هؤلاء الباحثين جون مرشايمر "بشكل عام، ان النظام الديمقراطي الليبرالي أخذ ينهار بشكل ملحوظ".
إن العولمة الأميركية ألقت بأعبائها الثقيلة والمدمرة على حياة مئات ملايين البشر وكشفت تمامًا حقيقة النظام العالمي الليبيرالي الجديد لاميركا التي تتاجر بشعارات الديمقراطية وحقوق الانسان.
ولكن نهوض روسيا والصين وايران أدى في نهاية المطاف الى تبدل جوهري في ميزان القوى العالمي، وقوض بالتالي نموذج القطب الأوحد الذي حاولت أميركا أن تفرضه على العالم.
وبعد نهاية الحرب الباردة السابقة بين الشرق والغرب، خاضت أميركا سبع حروب اقليمية ساخنة ذهب ضحيتها ملايين البشر، أي في المتوسط حرب كل سنتين أو ثلاث، ولكن ايا من هذه الحروب لم تحقق الاهداف المرسومة لها. كما نضيف الحرب العدوانية التي شنتها "اسرائيل" على لبنان بدعم أميركي كامل سنة 2006، والتي انتهت ايضًا بهزيمة تامة لمخطط العدوان الاسرائيلي.
ان
ان
ويرى الباحث الاميركي مرشايمر انه "في المستقبل المنظور لا يوجد اي مستقبل للنظام العالمي الليبيرالي" لاميركا.
وفي ليلة 2 ـ 3 كانون الثاني الماضي قامت اميركا بعمليتها الارهابية التي اقدمت فيها على اغتيال قائد المقاومة الاقليمي الجنرال قاسم سليماني ومرافقيه. وكان في تقدير الادارة الاميركية أن القيادة الثورية الايرانية ستحني رأسها للعاصفة. ولكن بعد مرور مراسم الاسبوع على دفن قاسم سليماني ردت القيادة الثورية الايرانية على الارهاب الاميركي بقصف قاعدة عين الاسد الاميركية في العراق بالصواريخ الباليستية عالية الدقة. والذي احنى رأسه للعاصفة هو الادارة الاميركية العسكرية والسياسية التي "بلعت" الصفعة، وأخفت خسائرها ليومين او ثلاثة، ثم اعترفت بوقوع ثماني اصابات، ثم ارتفع العدد تدريجيا ليصل الى اكثر من 60. ومن يدري ربما بدأت الجثث ايضا تظهر من مطابخ الاعلام الاميركي الموجه. واكتفت الادارة الاميركية بالتهديد بمواصلة العمليات الارهابية وقالت انها ستقتل جنرالا ايرانيا ثانيا. وبالمقابل رفعت القيادة الثورية الايرانية شعار تحرير منطقة غرب اسيا من الوجود العسكري لاميركا. وسارت مظاهرة مليونية في بغداد للمطالبة بانسحاب القوات الاميركية.
وفي الوقت ذاته كانت الجماهير الفلسطينية تحرق الاعلام الاميركية وصور دونالد ترامب وتدوس عليها بالاقدام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024