آراء وتحليلات
الاتحاد الأوروبي في العام 2020
سركيس أبوزيد
عند إلقاء نظرة سريعة على الخريطة السياسية للاتحاد الأوروبي، يظھر ما يبدو أنه حالة من الفوضى. ففي كل مكان تقريبا، تتدافع أحزاب نحو دخول البرلمانات، في الوقت الذي تتفسح التكتلات القديمة على اليمين واليسار. ومن ناحية أخرى، وسعيا منھم لإظھار سخطھم إزاء الھياكل السياسية القديمة، تشھد الفترة الحالية انسحاب بعض السياسيين الأوروبيين الأصغر سنا من أحزابھم، وتأسيسھم أحزابا جديدة. وبالنظر إلى أعداد الائتلافات الھشة وحكومات الأقلية والأزمات السياسية، يبدو أن غياب الاستقرار أصبح العُرف السائد الجديد.
ومع اكتساب المجتمعات الأوروبية قدرا أكبر من التعددية والتنوع، يتكرر الأمر ذاته على المشھد الحزبي بھا، الأمر الذي يزيد صعوبة بناء ائتلافات. وبمرور الوقت، من المحتمل أن يؤدي ذلك إلى إضعاف الھياكل الحزبية، مع رفع مكانة البرلمانيين الأفراد في الوقت ذاته. وھذا الوضع سيجعل الائتلافات بالضرورة أكثر تنوعا وغرابة. ورغم أن ھذه الأحزاب تجمع بينھا خصومة شديدة، فإنھا تعمل على توحيد صفوفھا اليوم في مواجھة الشعبويين. وتعكس ھذه الائتلافات المتنوعة من الداخل على نحو متزايد مجتمعات متنوعة. والملاحظ أن ثمة قضايا جديدة مثيرة للانقسام تعصف بصفوف جميع الأحزاب، مثل التغيّرات المناخية أو الذكاء الاصطناعي والميكنة. وفي بعض الأحيان تظھر قضية واحدة، مثل "بريكست"، تخيم بظلالھا على جميع القضايا الأخرى.
فالخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي باتفاق أو من دون اتفاق، أصبح وشيكا، وھذا الخروج حسمته الانتخابات الأخيرة التي أعطت حزب المحافظين بزعامة بوريس جونسون فوزا ساحقا وتفويضا مطلقا في شأن "البريكست" والمفاوضات مع بروكسل، في ظل دعم وتشجيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب لـ"جونسون"، والتحضير لإبرام اتفاقيات مالية وتجارية بين الولايات المتحدة وبريطانيا.
وبموجب الاتفاق الذي تفاوض جونسون بشأنه مع الاتحاد الأوروبي، فإن المملكة المتحدة بكاملھا بما في ذلك آيرلندا الشمالية، ستغادر الاتحاد الأوروبي، في ختام فترة انتقالية تمتد من سنة إلى ثلاث سنوات. وعلى المدى البعيد، فإن الرھان الحقيقي سيكون على نتيجة المفاوضات حول اتفاق تبادل حر جديد مع الاتحاد الأوروبي، لأنه سيحدد علاقة البلد مع شريكه التجاري الرئيسي لعقود، حتى لو أن حكومة جونسون تراھن كثيرا على المفاوضات مع بلدان أخرى، ولا سيما الولايات المتحدة.
وتُعتبر الفترة الانتقالية مھمة كونھا تمثل الفترة التي يمكن خلالھا للاتحاد الأوروبي والمملكة التفاوض بشأن صفقة تجارية. وخلال الفترة الانتقالية تظل قوانين الاتحاد الأوروبي سارية على المملكة المتحدة كما لو كانت دولة عضواً في الكتلة، لكنھا لم تعد ممثلة في ھيئات صنع القرار بالاتحاد الأوروبي. ورغم أن عددا كبيرا من رؤساء الشركات صوتوا ضد الخروج من الاتحاد الأوروبي، فإنھم يطالبون الآن بمعظمھم بتبديد الأجواء الضبابية المخيمة على السياسة والاقتصاد، التي انعكست سلباً على النمو المعدوم حاليا.
ويوضح جونسون أن الاتفاق المبرم مع بروكسل يعني أننا نخرج من الاتحاد الأوروبي مع الحفاظ على علاقتنا بلا مساس من دون رسوم جمركية ومن دون حصص، إن الاتفاق يحمي سلسلة مورّدينا، ويضمن امتلاكنا معادلات كاملة على صعيد المعايير وحاجات الصناعة، موحيا بأنه يؤيد المواءمة مع الاتحاد الأوروبي. لكنه في المقابل لم يتوقف عن امتداح الاتفاق التجاري الكبير الذي يسعى لإبرامه مع صديقه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، غير أن ذلك سيكون في غاية الصعوبة في ظل مثل ھذه المواءمة مع التنظيمات الأوروبية.
ويعتبر الخبراء أنه بمعزل عن "بريكست"، فإن الحكومة الجديدة ستطوي صفحة عقد من التقشف، ومن المتوقع أن يحظى الاقتصاد قريبا بدفع مالي كبير. ووعد المحافظون بضخ مئات ملايين الجنيه الإسترليني من الاستثمارات، لا سيما في المستشفيات ووسائل النقل، واعدين بثورة في قطاع البنى التحتية، ولو تطلب الأمر ارتفاع الدين والعجز.
لا أحد يعرف بتاريخ اليوم ما مصير العلاقات الاقتصادية الأوروبية ـ البريطانية، ولا كيف ستتطور الأمور في حال حصل "البريكست" من دون اتفاق. لكن المعروف بالنسبة للمتابعين لھذه العلاقات، منذ الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في حزيران 2016، أنھا تدھورت سنة بعد أخرى منذ ذلك التاريخ. والمعلوم أيضا أن التداعيات تضغط على الاقتصاد البريطاني أكثر فأكثر، حيث إن الضغوط ستزداد على الاستثمارات والنمو.
وكما هو المشهد الضبابي في العلاقات الأوروبية ـ البريطانية فإن نفس المشهد ينسحب على علاقة الدول الأوربية ونفوذها في الشرق الأوسط، والتي شهدت ضعفاً وتراجعاً، وذلك بحسب دراسة لـ"المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" وھي جزء من مشروع يتعلق بـ"خريطة النفوذ في الشرق الأوسط"، حيث يواجه الأوروبيون مجموعة ھائلة ومتنوعة من التحديات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي تفسير واقعي لحالة الضعف الأوروبي، يمكن تحديد قضيتين جوھريتين:
ـ أولا، ھناك افتقار كبير للوحدة في الاستجابة الأوروبية للتحديات التي تواجھھا منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. والضعف الأوروبي الداخلي قد ترك الاتحاد الأوروبي عرضة للتلاعب من جانب قوى خارجية أخرى، أولھا روسيا التي تمتلك القدرة على انتقاء واستمالة الدول الأعضاء، إذ ترى موسكو الخلاف الأوروبي الراھن بشأن مجموعة متنوعة من القضايا ذات الأھمية، فرصة ذھبية سانحة لتعزيز النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ـ من نقاط الضعف التالية أن الاتحاد الأوروبي وعلى نطاق واسع يُنظر إليه كلاعب سياسي طفيف التأثير في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يواصل الاتحاد متابعة القيادة الأميركية عن كثب. ويُنظر إلى الاتحاد الأوروبي على نطاق كبير بأنه مجرد تابع أمين لسياسات الولايات المتحدة حتى في المجالات التي يتمتع فيھا بقوة تقليدية معروفة، ونعني السياسات الاقتصادية والتجارية.
في داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وخارجھا، ھناك درجة من القلق الواضح لدى بلدان المنطقة من حالة النأي بالنفس الأوروبية وموقفھا المتضائل إزاء قضايا المنطقة، حتى إن بعض المسؤولين الأوروبيين أنفسھم يقرون بذلك. ومن المرجح للأمور أن تزداد سوءا مع مرور الوقت، على اعتبار أوجه القصور الھيكلية العميقة في أوروبا، وعلى خلفية البيئة العالمية سريعة التغيّر حيث بات من الحتمي على الأوروبيين أن يدركوا كيفية التصرف بأنفسھم ولأجل أنفسھم. فأيُّ وجه لأوروبا سيكون في عام 2020؟ لننتظر ونرَ!.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024