آراء وتحليلات
ترامب يتاجر بالعراق
د. علي مطر
تشهد مراكز الدراسات الأميركية نقاشًا وبحثاً جدياً، حول مستقبل القوات الأميركية في العراق، بعد دعوة الحكومة والبرلمان لخروج القوات الأجنبية منه. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هدد العراق، بفرض عقوبات "شديدة" في حال أرغمت قوات بلاده على مغادرة أراضيه وهذا مدار بحثنا.
ما خلفية سياسة العقوبات؟
يرى ديفيد دي روش الباحث في "مركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا " بجامعة الدفاع الوطني الأميركية أن تهديد ترامب "ينطلق من حسابات التكلفة المالية وليس من حسابات إستراتيجية، فيما تؤكد الباحثة في "معهد الأمن القومي الأميركي الجديد" كاليه توماس أن "إدارة ترامب تستخدم سلاح العقوبات".
تدفع خلفية ترامب الاقتصادية والمالية إلى التعامل مع دول العالم، باعتبارات الربح والخسارة المادية. وعلى الرغم من أن الاستراتيجية الأميركية بفرض العقوبات الاقتصادية ليست بجديدة، وهي أخذت منحى أكثر تفاقماً خاصةً مع إدارة باراك أوباما، بحيث أصبحت واشنطن تعمل بها بشكل أوسع مما هو مطبق في مجلس الأمن الدولي، إلا أن إدارة ترامب تستخدم السلاح الاقتصادي بشكل أعنف وكسيف مصلت على رقاب الدول والشعوب. وتحولت واشنطن إلى التعامل مع الدول كشرطي اقتصادي للعالم أجمع، من أجل فرض سياساتها وتحقيق مصالحها، وهذا ما يخالف أسس العلاقات الاقتصادية الدولية وينتهك القانون الدولي.
وقد تحولت العقوبات الاقتصادية إلى الاستراتيجية الأكثر استخداماً في سياسة الهيمنة الأميركية، وأصبحت البديل عن الحروب العسكرية، لمحاولة تغيير القرارات الإستراتيجية للدول والجهات الفاعلة التي تهدد مصالحها، ولفرض تغيرات جيوسياسية تصب في استراتيجية الهيمنة. وقد ذهبت الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب إلى عملية ضخ كبرى للعقوبات كإحدى أدوات سياساتها الاقتصادية. وتعد سياستها هذه من أخطر أنواع السياسات التي تندرج في إطار السياسات الدولية، من خلال ممارسة الضغط على الدول المستهدفة بالعقوبات بهدف تغيير مواقفها في الاتجاه الذي تريده.
وتتراوح الاستراتيجية الأميركية بين نموذجين يقوم الأول على الأدوات الاقتصادية البحتة، والثاني على الحرب الاقتصادية المرافقة لأعمال عسكرية الهدف منها شل قدرة الخصم.
العقوبات من منظار الشرعية الدولية
تعد العقوبات الاقتصادية التي تفرض من قبل الأمم المتحدة نوعاً من أنواع الجزاء في القانون الدولي، وهي تقوم على وقف العلاقات الاقتصادية مع أفراد أو دول لقمع أو إصلاح سلوك عدواني، والحفاظ على السلم والأمن الدوليين. ولقد أوردت المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة صوراً لبعض التدابير غير العسكرية. ويستمد الأساس القانوني للعقوبات الاقتصادية الدولية من ميثاق الأمم المتحدة في فصله السابع المواد (39- 41)، لكن ليس من حق أي دولة استخدامها وفرضها من خارج سياق هذه الآلية الدولية.
ولم يفت ميثاق الأمم المتحدة أن يعالج موضوع التدخل من ناحية الهيمنة الدولية عندما نص في الفقرة السابعة المادة الثانية على أنه "ليس في هذا الميثاق ما يسوغ "للأمم المتحدة" أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما". وتتضمن قوانين الحرب في بروتوكولات اتفاقيات جنيف لعام 1977 منع الحصار الاقتصادي ضد المدنيين كأسلوب للصراع الحربي. ولكن للأسف تتم ممارسة العقوبات الاقتصادية في ظل حالات غير واضحة قانونيا بين الحرب والسلم، ودون قرع ناقوس حرب عسكرية ظاهرة تؤثر العقوبات بشكل فاعل تدريجيا وبشكل غير مباشر أو مرئي.
لقد أشار الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي إلى الشكوك المتصاعدة حول مدى قانونية وأخلاقية العقوبات الشاملة عندما كتب عنها في عام 1995 ذاكراً أن "هذه العقوبات تثير التساؤل الأخلاقي حول إذا ما كانت المعاناة الموجهة على الفئات في البلد المستهدف هي وسيلة شرعية لممارسة الضغط على القادة السياسيين الذين لا تدل تصرفاتهم على تأثرهم بالأزمة".
هكذا تتعامل إدارة ترامب
لا يوجد اعتبار عند إدارة ترامب لأي شرعية دولية، فأسس العلاقات الدولية في منظوره قائمةً على مصلحته، وخياراته أحلاها مر، هي الإملاءات والصفقات ودفع المال أو ستكون الدولة أمام العقوبات. نماذج كثيرة من الدول باتت تواجه هذه العقوبات، من روسيا وكوريا الشمالية وإيران والصين وفنزويلا وكوبا والعراق على ما يبدو وغيرها. ومن خلال سياسته هذه يخرق ترامب وإدارته بشكل واضح ميثاق الأمم المتحدة والقرارت الصادرة عن الجمعية العامة للمنظمة وغيرها من القرارات التي تؤكد على سيادة الدولة.
وينطلق الحديث عن الانتهاكات الأميركية للقانون الدولي، وفق ما نراه من مسلمة أساسية، هي أن هذه العقوبات لا يحق لدولة ما أن تفرضها من خارج سياق الأمم المتحدة، سواء فرضت ضد دول أو منظمات إلا إذا كانت لا تتناقض مع ما تنص عليه مبادئ الأمم المتحدة أو قراراتها الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو مجلس الأمن، وفي هذه الحالة لا يمكن لواشنطن فرض عقوباتها على أي دولة، وعليه فإن ما يحصل هو إرهاب اقتصادي يخرق السيادة الوطنية التي تعد السلطة العليا للدولة في إدارة شؤونها في الداخل وفي علاقاتها الخارجية.
العقوبات سيف يقتل الأطفال
على الرغم من عدم الرضا عن عمل الأمم المتحدة ووكالاتها، لا سيما في مجلس الأمن الدولي، إلا أن مجلس الأمن يقع تحت التزامات واضحة تجاه الشرعية الدولية لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي الذي يوضح السبل اللازمة لتقييم ملف العقوبات، على الرغم من معرفتنا بالمعايير المزدوجة التي يتم التعامل بها كما حصل مع إيران والعراق سابقاً، وقد تم التأكيد في عدد من وثائق الأمم المتحدة ووكالاتها وشخصياتها بالإضافة لدراسات أساتذة قانونيين على انتهاكات مجلس الأمن لمسؤولياته في حالة الحصار الذي حصل ضد العراق سابقاً، لكن ذلك من منظار قانوني يكون أفضل ما تقوم به واشنطن التي تعبر عن مصالحها فقط، خاصةً أن هناك دولاً حاكمةً للقرارات الصادرة عن المجلس.
ومع ما تقدم فقد ارتكب المجلس انتهاكات إجرائية وأساسية عبر فشله في التحقق من تأثير العقوبات وانعكاساتها الإنسانية، وأيضا عبر انتهاكه المباشر لعدد من الحقوق الهامة ومن ضمنها حقوق الطفل في الحماية والحياة. وقد أدى برنامج النفط مقابل الغذاء إلى الفشل في تحسين ظروف التغذية والصحة للمواطنين العراقيين، وبينت الدراسات ارتفاع عدد وفيات الأطفال، في الخامسة من العمر وما دون في حينها، وقدرت الإحصائيات الموثقة أن ما لا يقل عن 400.000 طفل قد قضوا نحبهم نتيجة للعقوبات فكيف إذا كان من سيفرض هذه العقوبات ويطبقها، دولة استعلائية كالولايات المتحدة الأميركية؟.
(للإطلاع أكثر والتأكد من الاحصائيات راجع العقوبات الاقتصادية على العراق: المترتبات الإنسانية واحتمالات المستقبل، تقرير أعده خمسة خبراء دوليين في موضوع العقوبات وأصدرته، المنظمات غير الحكومية، اللجنة العربية لحقوق الإنسان، http://ar.achr.eu/reports/) .
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024