آراء وتحليلات
روسيا العائدة بقوة إلى لبنان والشرق الأوسط
سركيس أبوزيد
كان 2019 عام التمدد الروسي في الشرق الأوسط، الذي ينظر إليه الرئيس فلاديمير بوتين كجزء من جوار روسيا الواسع، خصوصًا أنه يمتلك ثروة نفطية وغازية وفرصًا لعلاقات ومشاريع تجارية بالنسبة إليه. فروسيا تحتاج الى إقامة علاقات شراكة مع دول المنطقة والعالم الإسلامي والعربي لتقليل حجم التھديدات على حدودھا الجنوبية، وتُعتبر ھذه المنطقة الخزان العالمي لمادة النفط والغاز الطبيعي ومركز الثقل للخطوط والإمدادات وتعمل روسيا في تركيا وسورية ولبنان والعراق بھدف إنشاء جسر بري الى أوروبا عبر الشرق الأوسط. وھذا ما يشكل خطرا على المصالح الأميركية والأوروبية، ويجعل المنطقة مسرحا للتجاذب الجيوسياسي الروسي - الغربي بسيناريوھات ظاھرھا سياسي وباطنھا اقتصادي.
وإذا كان ثمة رابح أكبر حتى الآن من سياسات إدارة دونالد ترامب، فھو بلا شك روسيا، حيث دفعت سياسة ترامب إلى تعزيز الشراكة الصينية – الروسية، كما أن اعتماده "الضغوط القصوى" على إيران أوصل الأوضاع معھا إلى حافة الحرب، ووثّق تعاونھا مع روسيا والصين. بالإضافة إلى أن طريقة تعامله مع حلفائه الأوروبيين ھي من بين المحفزات الأساسية لبعض حكوماتھم، وتحديدا ألمانيا وفرنسا، للسعي إلى فتح صفحة جديدة مع روسيا. الأمر نفسه ينطبق على تعاطيه مع تركيا التي لم يسبق لأيّ من رؤسائھا، منذ تأسيس الجمھورية، أن تمتع بصلة بھذه الدرجة من الحميمية كتلك التي تجمع رجب طيب أردوغان بفلاديمير بوتين.
ولا ننسى هنا دخول روسيا كوسيط على خط الأزمة في الخليج، المعتبر حتى سنوات قليلة منطقة نفوذ أميركي حصري، في تحول استراتيجي كبير لا يقلّ أھمية عن انتقال تركيا من الانضباط الأطلسي إلى تعدد الشراكات. وإذا أضيفت ھذه التحولات إلى الشراكات التي بنتھا موسكو مع بكين وطھران ونيودلھي، على رغم تحالفھا مع واشنطن، ومصالحھا المتنامية مع إسلام آباد، واتجاه ألمانيا وفرنسا نحو تجاوز آثار الأزمة الأوكرانية وإعادة الدفء إلى علاقاتھما بموسكو، فمن الممكن القول إن على بوتين أن يشكر ترامب على اختزاله السياسة الخارجية الأميركية إلى عمليات تھديد ووعيد وضغوط قصوى وابتزاز. مساھمته الأبرز إلى الآن ھي تسريع عودة روسيا كقوة دولية إلى أكثر مناطق العالم أھمية على المستويات الجيوسياسية والجيواقتصادية.
ولا مبالغة في القول إن بوتين أرغم العالم على العودة إلى الإنصات إلى روسيا. فقد اعتمد دبلوماسية مشاكسة نشطة في الأزمات، وحرك سيف الفيتو في مجلس الأمن مرات عدة. استعاد القرم، وزعزع استقرار أوكرانيا، وسدد ضربة استثنائية حين أفاق العالم على القوات الروسية تقف الى جانب حليفها الرئيس بشار الأسد لمنع النظام في سورية من السقوط على أيدي المعارضين والمقاتلين الجوالين المصنفين في خانة الإرھاب. فقد أدار بوتين على أرض سوريا لعبة بالغة التعقيد تجعله ممرا إلزاميا في أي محاولة لصناعة السلام في ھذا البلد. رسخت روسيا أقدامھا في سوريا، عسكريا وأمنيا، من خلال قواعدھا البحرية والجوية والبرية. وبوتين صاحب الجموح الإمبراطوري الروسي، وھو دارس جيدا قاعدة الاستراتيجية السياسية في المنطقة التي تقول إن من يمسك بسوريا قادر تماما على الإمساك بلبنان الذي دخل دائرة إھتمام روسيا منذ انخراطھا المباشر في الأزمة السورية وبات يشكل بالنسبة لھا ميدانا اقتصاديا وسياسيا وأمنيا حيويا. وحصل تقدم في العلاقات اللبنانية - الروسية وبات يغطي كل المجالات السياسية والاقتصادية، مع إعطاء أھمية خاصة لقطاع النفط والغاز. أما في المجال العسكري، فإن لبنان لا يبدي تجاوبا مع العروض الروسية حتى لا يثير حفيظة أميركا ولا يخسر دعمھا العسكري القوي للجيش اللبناني.
ومن المتوقع أن يشارك الروس في ورشة العمل الضخمة لتطوير البنى التحتية اللبنانية، وأن تشارك شركات روسية في بعض المشاريع التي ستتولاھا شركات خاصة. وسوف تسعى شركات روسية لوضع جذور لھا في شمال لبنان من أجل المشاركة في إعادة إعمار سوريا. في المقابل يناقش الخبراء الأميركيون منذ سنوات محاولات روسيا إدخال لبنان دائرة نفوذھا، بوضعه تحت مظلة موسكو للدفاع الجوي، وعبر بيعھا الأسلحة إلى بيروت. وبينما يجادل بعض المحللين بأنه يجب على واشنطن ألا تحاول التنافس مع الكرملين في ھذا البلد الصغير، يرى آخرون أن أي تنازل في لبنان ھو أمر غير مقبول. فلبنان في نظر موسكو يضم أكبر مجتمع مسيحي، وتاريخيا، كان ھناك تحالف طبيعي مع الكنيسة الأرثوذكسية التابعة لبطريركية أنطاكية. وفي عھد بوتين، ازدادت الاتصالات مع المسيحيين الأرثوذكس بشكل كبير، وتوسعت موسكو أيضا إلى التحالف مع الموارنة، أكبر طائفة مسيحية في لبنان. ولدى روسيا ھدفان رئيسيان في الشرق الأوسط يشملان لبنان:
- جذب أكبر عدد ممكن من الدول من مجال النفوذ الأميركي إلى جانبھا.
- وتحقيق موقع متميّز في سوق الأسلحة الإقليمي.
وكما فعل الكرملين خلال الحقبة السوفياتية، يسعى بوتين في الشق الأول إلى ربط الدول بموسكو من خلال تقديم المساعدة العسكرية والدعم الاقتصادي، وفق مقاربة أن الاتجاه الصعودي سيجعل الحليف الصغير معتمدا أكثر على موسكو. كما يسعى بوتين، في الشق الثاني، إلى تعزيز مصالح الشركات الروسية الكبرى وزيادة أرباحھا عبر الحلفاء. لذا سارعت موسكو إلى ربط لبنان بها من خلال محاولتھا بيع الأسلحة للحكومة. وحين أوصت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بخفض المساعدات العسكرية والأمنية بنسبة 80% إلى لبنان بين عامي 2016 إلى 2018 وردت موسكو على ذلك من خلال تقديم قرض بقيمة مليار دولار لبيروت لشراء الأسلحة، وحتى أنھا قدمت بعض المساعدات المجانية. لكن هذا الاقتراح رفضه رئيس الوزراء سعد الحريري في كانون الأول 2018 ، قائلا إن قبوله سيقتصر على التبرعات الروسية لقوى الأمن الداخلي في لبنان. وطوال عام 2018، ألقى العديد من الخبراء الروس باللوم على حياد بيروت وعلى الضغط الأميركي والمشاكل الداخلية للحكومة اللبنانية بعرقلة الصفقات مع روسيا. ومع ذلك بقي أن أفضل رھان في موسكو ھو العرض على لبنان الحماية تحت مظلة الدفاع الجوي الروسية، من دون ربطھا بالمساعدات العسكرية، وستستند ھذه الاستراتيجية إلى التطورات في الصراع الإيراني -الإسرائيلي.
في النهاية، تبدو روسيا مستعدة للولوج بشكل أكبر في قضايا الشرق الأوسط، وتسعى لتعزيز قبضتھا وتثبيت شرعيتھا في البحر الأبيض المتوسط. فقد نجحت الدبلوماسية الروسية في إقامة علاقات جيدة مع الدول الحليفة تقليديا مع الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة كالسعودية ودول أخرى في مجلس تعاون الخليج ومصر والأردن وتركيا، إضافة الى "إسرائيل". وترسل روسيا اليوم مؤشرات على أنھا استعادت دورھا كلاعب أساسي في المنطقة واستقرت فيھا كقوة يُحسب لھا حساب. فقد أعاد بوتين صياغة قواعد اللعبة في الشرق الأوسط، وكانت البداية في الحضور العسكري في سوريا الذي شكل انعطافة بارزة في تاريخ السياسة الروسية تجاه منطقة الشرق الأوسط لتحقيق مزيد من النفوذ الإقليمي، وحيث إن سوريا بوابة للمنطقة ومنصة للوجود الروسي العسكري. تبدو روسيا اليوم ھي الحامية للوضع القائم في الشرق الأوسط، حيث يُنظر إليھا على أنھا أكثر تماسكا ومصداقية في سياساتھا الشرق أوسطية.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024