آراء وتحليلات
التهديدات الأميركية: غيوم بلا أمطار
إيهاب شوقي
رغم ان النظر الى المستقبل دوما هو النصيحة الهامة والانجح للبناء، الا ان العودة قليلا للوراء لإمعان النظر، هي الاخرى مفيدة لدراسة الاوضاع وخطوة مكملة ورئيسية لبناء المستقبل. ومن هنا تكمن فائدة وضرورة دراسة التاريخ، ليس للتوقف عنده ولكن للاستعانة بدروسه في البناء والمضي قدما بخطى راسخة.
في عام 2004، قام وليام بيرنز مساعد وزير الخارجية الامريكي (وقتها) بزيارة للمغرب، وقالت التقارير في ذلك الحين ان زيارة بيرنز إلى المنطقة لا تدخل إلا في إطار تأكيد التوجهات الأمريكية الجديدة، وهي بالدرجة الأولى التعامل مع المؤسسات لا الأشخاص، وإيجاد فضاء مغاربي يخدم المصالح الاقتصادية الأمريكية.
ولم يتطلب الامر لخروج التوجهات الامريكية الجديدة الى النور سوى أقل من ست سنوات فصلت بين اعلان التوجهات الجديدة وما عرف امريكيا بـ"الربيع العربي".
وبالعودة لتقارير عام 2004، فقد قالت الصحافة وقتها رصدا للزيارة، انه ليس من السهل معرفة رأي الإدارة الأمريكية بشأن بقاء الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في السلطة بعد عام 2004، وليس من السهل أيضا معرفة رأيها حول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ورغبته في الفوز بفترة رئاسية ثانية، غير أنه من السهولة بمكان معرفة التوجهات الاقتصادية الجديدة للولايات المتحدة التي لا تتناسب مع أفكار القيادات السياسية التقليدية.
وقالت الصحافة نصا: "معنى هذا أن الراغبين في البقاء حكاما من دون منازع على طريقة السنوات الثلاثين الماضية، قد يكون من المستحسن لهم أن ينسحبوا من دون ضجيج، لا لأن الولايات المتحدة حريصة على الديموقراطية في المنطقة، بل لأن اهتمامها بمستقبل أبنائها تعطله العقليات المتكلّـسة".
هنا تجدر فقط ملاحظة أن وليام بيرنز هو رئيس مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، ومن المعلوم دور هذا المركز في التدخل في الحراكات العربية. ولدى برنامج كارنيغي للشرق الأوسط بمكاتبه في كل من واشنطن وبيروت سجل حافل من المشاريع التي تشارك بشكل مباشر الأصوات المحلية لدراسة القضايا الاقتصادية والجيوسياسية والاستراتيجية الأساسية في العالم العربي، وفقا للموقع الرسمي لكارنيغي.
بالطبع لم تتغير التوجهات كثيرا منذ 2004 حتى الان، رغم التطورات الكبيرة التي حدثت والتوازنات الجديدة التي طرأت، ولكن بقيت المشكلة الامريكية المتعلقة بالمؤسسات الكبرى التي تريد الاستثمار.
واليوم نرى بعض التقارير الامريكية في 2019 تتحدث عن كلام مشابه، بل ومتطابق.
فعند توصيف الاوضاع في الجزائر او المغرب العربي عموما، نرى كلاما مطابقا لذات توجهات وليام بيرنز منذ خمسة عشر عاما، ونرى معها موجة (ربيعية) جديدة تبدأ من الجزائر هذه المرة.
فعلى موقع معهد واشنطن وفي مقالات حديثة، يمكننا تناول بعض المقتطفات لتكون محلا للشاهد الذي نورده:
ففي احد المقالات ترد فقرة تقول: "إذا لم تتوصل الجزائر إلى توافق سياسي حول المرحلة المقبلة، وفي حال بلغ الغموض السياسي نقطة التصعيد على ضوء الأزمة الاقتصادية المحدقة بالبلاد، من الممكن أن يصبح قطاع النفط والغاز – الحيوي بالنسبة للاتحاد الأوروبي – معرضًا للخطر. ومتى انعدم الاستقرار في الجزائر، أصبحت البلاد هدفًا للكثير من القوى الدولية ذات المصالح المتضاربة والتي تتضارب مع مصالح الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية. فروسيا سوف ترى في ذلك فرصةً لتعزيز نفوذها في شمال أفريقيا بما قد يشكل خطرًا على مصالح الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أما الصين فسوف تقدم المساعدة المالية للجزائر بطريقة كفيلة بتعريض المصالح الاقتصادية للقوى الأخرى للخطر".
وفي مقال آخر، نجد فقرة تقول: "وفي حين أن التغيير السياسي صعب ومشحون، فإن للبلدان المجاورة للجزائر في المنطقة أسبابًا تدعوها إلى التفاؤل الحذر. وإذا تمكنت الجزائر من الحصول على حكم ديمقراطي، فسيكون من المفيد جدًا أن تعيد البلاد فتح حدودها أمام المستثمرين الإقليميين والعالميين على حد سواء. فخطوة كهذه ستكون ذات منفعة متبادلة لكل من اقتصاد الجزائر والمغرب، وستنتهز الشركات المغربية فرصة المشاركة في السوق المربح الذي يضم 40 مليون مستهلك متعطش. هذا ويمكن أن تقوم الشراكات الاقتصادية، التي كانت ذات يوم الجانب الأخير من العلاقات المغربية الجزائرية الودية، بتمهيد الطريق لمزيد من التبادل الاجتماعي والتعاون بين الشعبين".
ولا يخفى على القارئ ان هذه المقالات في معهد واشنطن، هي بمثابة توصيات واغراءات لمتخذي القرار في امريكا واوربا، حيث المستهدف هو فتح الطريق للاستثمارات الامريكية وازالة الحواجز ايا كان مسماها، سواء كانت انظمة او جيوشاً او حركات او حتى قوى اجتماعية رافضة للهيمنة.
ولعل الاولوية العسكرية الامريكية، وكما قالت التحليلات من فترة كبيرة وصدقتها الممارسات، تتجه صوب اسيا، ولكن المنطقة يراد لها موطئ قدم امريكي يعمل كوكيل للمصالح، وهذا الوكيل ايضا يمكن ان يكون انظمة او حركات او حتى قوى اجتماعية مرحبة بالهيمنة تحت شعار التغريب او الحداثة او الحريات او (الديمقراطية الليبرالية).
والتوجهات الاستراتيجية العسكرية اعترف بها مؤخرا، وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر، والذي أعلن أن أولويته الجديدة تكمن في زيادة تواجد الولايات المتحدة العسكري في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بغية رفع قدرات واشنطن على التنافس مع روسيا والصين.
واضاف اسبر أثناء أعمال منتدى ريغان للدفاع الوطني في كاليفورنيا، ردا على سؤال عن خفض الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان، أنه يتطلع إلى إعادة انتشار القوات الأمريكية خارج الولايات المتحدة لنقل مزيد منها إلى قيادة منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لا سيما من أفغانستان، مصرحا بأن: "هذا هو المسرح الأولوي بالنسبة لي، ولا أنظر إلى أفغانستان فقط بل إلى جميع الأماكن التي بإمكاني سحب القوات منها لإعادتها إلى الوطن أو للتنافس مع الصينيين ولطمأنة حلفائنا وإجراء مناورات وتدريبات"، حسبما نقلت عنه وكالة "بلومبرغ".
وهو ما يعني ببساطة ان امريكا لم تعد بحاجة لجيوش وقوات الا لاسباب محددة ودقيقة، تتلخص في ابتزاز واستجلاب نفقات توفر من ميزانية البنتاجون، وحراسة لوكلاء امريكا من انظمة او ميليشيات، ومصالح تجارية ونفطية.
بينما الوجود الرئيسي سيكون في مناطق التهديد الاستراتيجي الرئيسية في اوراسيا، لمنع التقارب بين شرق اسيا واوربا وطرد امريكا، وذلك عبر قوات امريكية من جهة، وعبر الناتو من جهة اخرى.
اما المنطقة فمتروكة للوكلاء والفتن ولحصاد ما تم زرعه وغرسه من مفاهيم وافكار وتشويه للقوى الحية، ولجني ثمار الخلط والتشويه وحرف المسارات.
ان ما تمر به المنطقة هو غيوم كثيفة ولكنها بلا امطار سواء كانت لمواجهات عسكرية او تسويات، هي مجرد غيوم لتغطية الانسحاب الامريكي، ولمحاولة تهديد القوى الحية بعدم الاقدام على المواجهة.
ولكن هذه الغيوم ترهب فقط المتخاذلين والمرتبكين، اما الاحرار والمقاومون فيعلمون دورهم وتكليفهم ويعلمون حصرا انها غيوم بلا امطار.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024