آراء وتحليلات
أوجه الصراع الأميركي - الروسي في سوريا وليبيا
سركيس أبوزيد
المشھد الإقليمي تتصدره الأزمات المتعددة الأشكال والأحجام. فإلى الآن في سوريا، لم تتضح بعد نھايات العملية العسكرية التركية التي تم إجھاض مفاعيلھا على يد الولايات المتحدة وروسيا في آن، في وقت ما زال مصير إدلب مجھولًا بعدما تحوّلت الى مستوعب للجماعات الإرھابية والمتطرفة، والى خط تماس بين أنقرة ودمشق، يُضاف الى خط التماس المستحدث في المنطقة الكردية الحدودية شمال سوريا. فقد وطدت موسكو أقدامھا في سوريا، وبعد قاعدة "حميميم" و"طرطوس"، دشنت قاعدة عسكرية لھا في سوريا، معلنة عن نقل مروحيات ونشر نظام "بانتسير" الصاروخي قصير المدى في مطار القامشلي الدولي شمال شرقي سوريا، الواقع على مقربة من الوجود الأميركي والحدود مع تركيا.
الوجود العسكري الروسي في مطار القامشلي وتحويله إلى قاعدة جوية لموسكو يكتسب أھمية سياسية، فضلًا عن الأھمية الميدانية والعسكرية، إذ يحمل تمركز القوات الروسية في المطار الذي شغلته سابقا القوات الأميركية دلالات مھمة لموسكو التي تطالب برحيل القوات الأميركية عن كل الأراضي السورية. وفي سعيھا إلى إبراز رمزي لنجاح سياستھا في دفع الولايات المتحدة إلى الإنسحاب من أكثر من نصف مناطق وجودھا سابقا، عمدت إلى اختيار القواعد الأميركية السابقة في صرين ومنبج وعين العرب، لتكون قواعد ونقاطا عسكرية جديدة لھا في المنطقة، وتُجري فيھا إنزالات جوية رمزية، تعبيرا عن تبدّل النفوذ من أميركي إلى روسي.
في الواقع، لم تخفِ موسكو قلقھا من تركز الوجود الأميركي في مناطق غنية بالنفط. ورغم المكاسب السياسية التي حققتھا في سوريا ونجاحھا في تغيير خرائط النفوذ في مناطق الشمال، عجزت عن التحكم في رقعة شاسعة تضم الجزء الأعظم من مخزون سوريا من النفط والغاز. وجاء الإعلان عن خطط واشنطن لتعزيز الوجود العسكري في مناطق شرق الفرات عبر إقامة قاعدتين عسكريتين جديدتين وزج قوات وآليات، ليُطلق رد فعل روسيا غاضبا برز من خلال استخدام لھجة لم يسبق لموسكو أن تعاملت بھا في خطابھا السياسي، إذ اتھمت واشنطن بسرقة الثروات السورية، ووصفت الأميركيين بأنھم قطّاع طرق على مستوى دولي، معلنة أنھا لن تقبل بالوجود غير الشرعي للولايات المتحدة في مناطق الشرق السوري وسوف تدافع عن موقفھا، من خلال تصعيد تحركاتھا ضد تعزيز الوجود الأميركي في شرق سوريا في إطار المؤسسات الدولية عبر الانطلاق من عدم شرعية الوجود.
وراء الحملة الروسية على تحركات واشنطن تكمن مخاوف جدية لدى موسكو، من أن تصرفات واشنطن ستعرقل نھج التسوية السياسية الذي سعت موسكو طويلا لفرضه عبر مسار آستانة وعبر إطلاق عمل اللجنة الدستورية بعد مخاض عسير، والأھم من ذلك، عبر التفاھمات الروسية - التركية التي وضعت آلية مشتركة رأت فيھا موسكو نقطة انطلاق لحسم الملفات العسكرية والأمنية العالقة تمھيدا لتعزيز مسار سياسي يستند إلى القرار 2254 لكنه لا يقوم على تطبيق دقيق لكل بنوده، بل يعكس موازين القوى التي عملت موسكو على تكريسھا خلال سنوات. والوجود الأميركي في شرق الفرات، يحبط فكرة توسيع رقعة سيطرة الحكومة السورية على الجزء الأعظم من الأراضي، ويمنح الولايات المتحدة وحلفاءھا ورقة ضغط قوية، ويشكل تھديدا دائما للرؤية الروسية للتسوية النھائية. أما في البعد الاقتصادي، فإن سيطرة واشنطن على الخزان النفطي لسوريا، يُسقط من يد موسكو أھم عناصر الدفع نحو إطلاق مشروع دولي لإعادة الإعمار في سوريا، ويقطع الطريق على الشركات الروسية الكبرى التي تطلعت طويلا لحصة مھمة من الكعكة السورية. فقد ركزت الجھود الروسية في سوريا على خطين:
- خط التقريب بين سوريا والأكراد وفتح خطوط حوار وتعاون لمواجھة التدخل التركي، وفتح باب الحل في شمال سوريا، بعدما بات الأكراد أكثر ليونة وواقعية إثر صدمتي الانسحاب الأميركي والھجوم التركي.
- خط التقريب بين دمشق وأنقرة ومصالحة الأسد وإردوغان، وتجاوز مرحلة الحرب والانتقال الى مرحلة التسوية.
ونُقل عن مصادر دبلوماسية روسية ھذه الخلاصة الإقليمية:
- الرئيس بشار الأسد باقٍ حتى انتھاء ولايته في العام2021، ويحق له أن يترشح لولاية رئاسية جديدة.
- لا عودة للنازحين السوريين من دول الجوار السوري (لبنان والأردن وتركيا) إلا بعد التوصل الى تسوية سياسية للأزمة.
- العلاقة بين روسيا وإيران في سوريا جيدة، وكل دولة تحتاج الى الأخرى. فالإيرانيون باقون في سوريا كوجود عسكري لأن الرئيس الأسد يريدھم.
- التنسيق بين روسيا و"إسرائيل" يقتصر على "أمن "إسرائيل"".
- "صفقة القرن" في حكم المنتھية، وإذا وُلدت ستولد ميتة، فترامب لا يعرف طبيعة المنطقة في تكوينھا التاريخي والديني والمجتمعي. الأولوية عنده للحل الاقتصادي، ولكن القضية الفلسطينية ھي قضية سياسية ودينية وليست قضية إنسانية واجتماعية بالنسبة اليه.
- روسيا مھتمة لمصير ومستقبل المسيحيين في الشرق الأوسط وفي سوريا ولبنان خصوصا، وترغب في التنسيق مع الفاتيكان حول ھذا الموضوع.
ھذا المشھد الإقليمي المعقد والمربك في الساحات العسكرية الميدانية، امتد إلى ليبيا أيضاً، فقد تعاظم دور موسكو في الشرق الأوسط إثر تدخلھا في سوريا ومنحھا فرصة العودة إلى ليبيا، وتحقيق أحد أحلام الإستراتيجيين الروس بإيجاد منافذ إلى موانئ المتوسط الدافئة، وھي تعمل منذ أكثر من سنة على تعزيز مواقعھا في الشرق الليبي لبناء تحالفات تزيد من فرصھا للعودة بقوة إلى الساحة الليبية، بما يتيح لھا تجاوز الإطار الليبي لتجسيد تأثيرھا بشكل أكبر في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط ككل.
التدخل الروسي حصل بعد أن عجزت قوات الجنرال حفتر عن اقتحام طرابلس وتسجيل انتصار يذكر منذ بداية التدخل في بداية نيسان الماضي، خصوصا أن ھذه القوات تعاني من نقص في عدد الجنود وكفاءتھم، مما دفع حفتر الى استئجار جنود روس لتعويض نقص الكفاءة القتالية ونقص العدد في آن واحد. لكن، التدخل الروسي في ليبيا أقلق واشنطن التي تدعم سيادة ليبيا ووحدة أراضيھا، متھمة روسيا باستغلال الصراع على حساب الشعب الليبي، داعية اللواء حفتر إلى إنھاء ھجومه على طرابلس. كما أقلق ھذا التدخل الروسي الدول الأوروبية لأنه يمثل تھديدا لأمنھا ومصالحھا، معتبرة أن الموقف الأميركي غامض، لأن إدارة ترامب لم تعد تھتم بخطوات روسيا التوسعية في ليبيا، مثلما لم تھتم بالتدخل الروسي في سوريا. وما يقلق الأوروبيين قدرة روسيا إذا تحكمت بالساحة الليبية التأثير على أمن أوروبا، لأن ليبيا ممر رئيسي للھجرة من إفريقيا إليھا، وقاعدة رئيسية للجماعات المتطرفة.
في الواقع، تجاھلت الولايات المتحدة لأكثر من عقد دعوات فلاديمير بوتين لھا ولبقية دول الغرب للتعامل مع روسيا على قاعدة الندّية، وھذا يفسر إصراره على الاستعراض المستمر، كلما توفرت الفرصة، لآخر منتجات الصناعات العسكرية الروسية، لإظھار أن روسيا عادت قوة دولية من الدرجة الأولى. لكن ھذا الإصرار لم يتنافَ مع إبقاء الباب مفتوحا أمام إمكانية الحوار مع الولايات المتحدة للتوصل إلى تفاھمات وتوافقات تحول دون نمط جديد من المواجھة المحتدمة بينھا وبين روسيا.
في النهاية، لروسيا مصالح متباينة لكن ليس بالضرورة متناقضة مع الولايات المتحدة، فھي تعمل على تطوير علاقاتھا مع قوى إقليمية كمصر والكيان الاسرائيلي والسعودية وتركيا. فموسكو تسعى لصياغة توازن جديد في المنطقة قد يختلف عن ذلك الذي تفضله واشنطن.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024