آراء وتحليلات
واشنطن ترهن النظام السياسي وتضعف الاقتصاد اللبناني
محمد علي جعفر*
لم يعد خفياً الدور الأمريكي المباشر في الأزمة اللبنانية. ولعل الكثيرين لا يعرفون حجم التدخل الأمريكي في السياسة اللبنانية عبر فرض سياسات تُجيِّر سلوك الحكومة اللبنانية لما فيه خدمة للمصالح الأمريكية في المنطقة والعالم. وهو ما يُمكن أن يُفسر معضلة وأزمة الوضع الحكومي وغياب أفق الحلول. فيما بات واضحاً وجود مساعٍ أوروبية لحل الأزمة، لكنها تصطدم أيضاً بالتباين الأمريكي الأوروبي، مع ما تدل عليه التجربة الأوروبية من فشل في الوساطات كما جرى في الملف النووي الإيراني والأزمة الأوكرانية، مع ضرورة الالتفات الى أن الغيرة الأوروبية تعود لعدة عوامل تأتي في مقدمتها المصالح التي تفرضها الجغرافيا السياسية لأوروبا، مع الحنين الأوروبي للعودة الى إدارة ملفات بلاد الشرق!
أمام هذا المشهد ومع دخول الأزمة اللبنانية شهرها الثاني، بات واضحاً استغلال الوضع الاقتصادي في لعبة التجاذبات، وهو ما يعني أننا نعيش مرحلة اللعب بالمخاطر، مع ما يعنيه ذلك من دخول لبنان في حسابات الدول والإقليم. من هنا تبدأ قصة التدخل الأمريكي الجديد القديم. عبر تاريخها، لم تكن الأحداث اللبنانية بعيدة عن الدور الأمريكي المباشر ولغايات سياسية واقتصادية.
ولأن لبنان يعيش تحت رحمة النموذج الاقتصادي القائم على السوق الحر، مع ما يعنيه ذلك من ارتهان في السياسات الاقتصادية للخارج، تملك واشنطن القدرة على التحكم بعدد من الخيارات الاقتصادية، مع وجود جزء من الطبقة السياسية المتعاونة والتي تجمعها مع واشنطن مصالح تقوم على دعم هذا النموذج الاقتصادي وتأمين استمراريته. وهنا نُشير وبشكل موجز لعدة أمثلة نسعى من خلالها لربط الأحداث التاريخية ببعضها بعضًا لتأكيد نظرية الدور الأمريكي المتلازم لتطور النظام السياسي اللبناني وعلاقة ذلك بلعبة الاقتصاد والسياسة في لبنان. مع الإشارة الى أن الكلام حول هذه الحقائق يطول.
خلال الحقبة الممتدة بين العامين 1951 و 1958 دعمت واشنطن أطرافًا سياسية لبنانية للوصول الى الحكم، فيما تُشير الحقائق إلى أن شركات نفط أمريكية كانت خلف هذا الدعم ولغايات سياسية واقتصادية. لم يكن خفياً حينها الحرب الأمريكية على حركات التحرر الوطني والتي ترجمها صعود الفكر الاشتراكي في المنطقة.
من هنا كان حلف بغداد عام 1955 جزءاً من اللعبة التي لا يمكن فصلها عن مساعي الكيان الإسرائيلي لتقسيم لبنان ولتوقيع معاهدات سياسية واقتصادية مع أطراف محلية لبنانية في ظل رئاسة بن غوريون للكيان عام 1956.
وصولاً الى الحرب الأهلية كان الدور الأمريكي مباشراً. رغم عدم الإتيان على ذكره، خوفاً من تبيين الحقائق المتعلقة ببعض الذين وصلوا الى السلطة وجمعهم بواشنطن الجموح الليبرالي للحكم، مع وجود مصلحة أمريكية لمحاربة اليساريين والاشتراكية. لنقل إن واشنطن كانت متغلغلة في النظام اللبناني ومنذ سنوات طويلة، دون أن تفضح دورَها الحقائقُ.
وكما ساهمت واشنطن في دعم اليمين اللبناني للوصول الى السلطة خوفاً من اليسار، سعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى محاربة أي نموذج يُنادي بالتحرر أو المقاومة، ليس حفاظاً على استمرارية النظام السياسي المُرتهن للخارج فحسب، بل حفاظاً على المصالح الكبرى للكيان الإسرائيلي مع ما تفرضه معادلات الجغرافيا السياسية.
وهنا يمكن الإشارة بجرأة للمحاولات الأمريكية الدائمة لزج الجيش اللبناني في اللعبة السياسية المحلية، وأسباب منع المساعدات عنه. مع ضرورة الالتفات الى الدور الأمريكي في ترسيخ سياسات إضعاف الجيش اللبناني وجعله مرهوناً لقرارات الطبقة السياسية التي خلال فترة من حكمها امتنعت عن السماح له بقتال العدو الإسرائيلي ودفعته مرات عدة للاقتتال الداخلي!
لم يتوقف الدور الأمريكي وصولاً الى العام 1982 ودعم الإجتياح الإسرائيلي الذي لم يغب عنه الدور العبقري لوزير الخارجية الأمريكي "اليكسندر هغ"، كما كانت القوات الأمريكية شريكاً في تقديم المعونة العسكرية والأمنية.
كان الاجتياح الإسرائيلي بمثابة نقطة تحول في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي مع ما أفرزه من مقاومة وطنية ساهمت فيما بعد في ضرب المصالح الأمريكية في لبنان وصولاً الى مرحلة ترسيخ معادلات أقوى من قدرة واشنطن وحلفائها.
يُبين هذا المسار تطور الدور الأمريكي مع ما لازمه من صعوبات تبدو واضحة مع بروز حركات التحرر والمقاومة في لبنان وتصاعد دورها، وصولاً الى مرحلة الرضوخ لقوة المقاومة وحلفائها. من هنا تبرز أهمية الربط بين الدور المهم والمشتركات الطبيعية الجامعة بين المقاومة وحركات اليسار في التصدي للمحاولات الأمريكية للسيطرة على مقومات البلاد و مفاصل الحكم. ومن هنا يُصبح واضحاً سبب تلاقي جمهور المقاومة مع مطالب الحراك المُحقة، وأصوات النخب الداعية لبناء الدولة.
اليوم تبحث واشنطن عن صيغة داخلية تُزيل الشرعية عن دور حزب الله لتبرير محاربته محلياً! مع ما يُمثله حزب الله من تنظيم يُعبر عن آمال وقيم شرائح هي أكبر من بيئته الحاضنة لناحية قيمه القومية وأدبياته الاستقلالية. فشلت واشنطن خلال سنوات طويلة في عزل الحزب عن الحياة السياسية. واستطاع الحزب رغم ايديولوجيته الجهادية تجيير دوره في خدمة مصالح لبنان القومية وتبرير دوره في المقاومة والحياة السياسية. قوة حزب الله تكمن في قدرته على تأمين استمرارية مشروعه لأسباب تتعلق بأنه جزء من الكيان اللبناني نجح في تقديم تجربة ودور مغاير لكافة التيارات والأحزاب السياسية. مع ما تشكله هذه التجربة في الحقيقة من دعم لمطالب الشعب ومفاهيم الدولة، رغم غياب ذلك عن الخطاب الحالي لجهل الكثيرين وعدم قدرتهم على توضيح حقيقة أن مشروع المقاومة هو مشروع داعم للدولة وليس نقيضاً لها.
لذلك فإن ما جرى خلال السنوات الماضية من منع تنفيذ مشاريع إصلاحية لقطاعات حيوية كالكهرباء والاتصالات لم يكن بعيداً عن مساعي واشنطن منع خيارات اقتصادية قادرة على تحرر لبنان من ارتهانه الاقتصادي للخارج. هذا هو السبب الحقيقي خلف معركة واشنطن الحالية ضد لبنان واللبنانيين، وهذا هو السبب خلف معركة واشنطن العلنية ضد حزب الله وما يُمثله من قدرة وقوة تُساهم في إخراج لبنان من ارتهانه للخارج أيضاً. هكذا مارست واشنطن على مر السنوات دوراً أساسياً في ترسيخ النظام السياسي المُرتهن للخارج وإضعاف الاقتصاد اللبناني!
*باحث متخصص في نظم السياسات والحوكمة
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024