آراء وتحليلات
الأزمة اللبنانية وخيوطها العالمية
محمد علي جعفر(*)
دخل لبنان بعد الطائف مرحلةً جديدة في تاريخه السياسي. وهنا فإن فهم طبيعة النظام السياسي اللبناني ومعرفة العلاقة بين بنية هذا النظام والنموذج الاقتصادي اللبناني المُتبع، يكفي لمعرفة حجم الأزمة وعمقها. ليست الأزمة الحالية وليدة السنوات الماضية، بل هي نتيجة لمسار بدأ منذ بروز الميثاق الوطني وما ترجمته العقلية المصرفية التي جاء بها ميشال شيحا، ورسَّخه بالعقيدة الاقتصادية التي حكمت لبنان ولا تزال. فيما كانت مرحلة ما بعد الطائف، مرحلة تحويل البلاد الى ساحة سائبة لترجمة عدة مصالح جاءت بها التحولات الإقليمية والدولية ضمن إطار محلي لبناني. تزامنت هذه المرحلة مع صعود نظام القطب الواحد كنتيجة لانهيار الاتحاد السوفيتي، وما عكسه ذلك من تحولات دفعت الدول لتبني نموذج الاقتصاد الحر. في لبنان انعكس التحول الاقتصادي العالمي في الصيغة المحلية للحكم، بقيادة الحريرية السياسية. حينها أطلت على الساحة اللبنانية كل الترجمات العملية للصفقات التي تُبررها لعبة الاقتصاد والسياسة. من هنا، فإن ما يجري على الساحة اللبنانية أعمق وأكبر من أزمة محلية. هي أزمة تُنبئ بالانهيار العالمي لنموذج الاقتصاد الحر، وما يعنيه ذلك من انتهاء كافة صيغ الحكم المحلية المُترجمة لها. فهل ينطبق ذلك على الحالة اللبنانية؟
بلُغة قادرة على تبسيط ما هو مُعقد، يمر لبنان بأزمة تُشكل منعطفًا في تاريخه السياسي. يُسميها البعض العبور نحو الجمهورية الثالثة، ويربطها بالتحديات الإقليمية والدولية. وهو ما تُثبته عدة مؤشرات.
أولاً: على الصعيد المحلي وفيما يخص التعاطي التقليدي للنخبة الحاكمة، يكفي الإشارة الى وضوح غياب القدرة الداخلية على صناعة حل للأزمة. وهنا وعلى الرغم من أن اللبنانيين لم يعتادوا يوماً حل مشكلاتهم دون رعاية، لكنهم تمكنوا دوماً من استجلاب رعاية خارجية على قياس اللبنانيين. هذه المرة، لا يجب التغافل عن أن المشكلة تختلف عن سابقاتها، حيث باتت أزمة سلطة يحضر فيها المواطن بقوة ولأول مرة، ويبرز فيها ضياع أهل السلطة وكذلك ضعف الأحزاب والتيارات السياسية في إيجاد الحلول.
ثانياً: على الصعيدين الإقليمي والدولي، لا يجب الاستخفاف بالعوامل الكثيرة والتي تُشير لتحولات بنيوية تشهدها السياسة الدولية مع ما يرتبط بها من عوامل اقتصادية. لم يتطرق أحد الى أزمة الدولار العالمية وما يتحدث عنه الخبراء عن حتمية اندلاع أزمة مالية خلال العام المُقبل كأزمة 2008. وهو ما يرتبط مباشرة بتراجع قدرة نموذج الاقتصاد الحر على الصمود. من هنا، يجب البدء برسم المسارات المستقبلية.
مع هذا الانهيار الاقتصادي، سيكون طبيعياً انهيار الصيغ السياسية المُرتبطة به. فما العلاقة بين صيغ الحكم ونموذج الاقتصاد الحر؟ وما علاقة لبنان بكل ذلك؟
باختصار يُعبِّر هذا النموذج عن الترجمة السوقية لقيم الرأسمالية. كثيرة هي المصطلحات والمفاهيم المستخدمة، لكنها ليست إلا عناوين للإخضاع والابتزاز. "خطط التصحيح"، "إعادة الهيكلة"، ليست إلا أساليب لترجمة التبعية لما يُسمى بـ "المؤسسات الدولية المانحة" والتي ترتبط بمراكز القرار المالي والاقتصادي، وتسعى لتحقيق "دبلوماسية الدولار" كنهج أمريكي قديم في عالم الحرب الناعمة. لتطبيق هذه الأساليب، تستخدم هذه الجهات عمليات الابتزاز السياسي مقابل تأمين التمويل. مع ما يستلزمه ذلك من مكافآت تُوزع على أهل الحكم المحليين المتعاونين، والذين يعملون كوكلاء. هكذا يُصبح أهل الحكم شركاء صغارًا للمانحين الكبار، مع ما يعنيه ذلك من تحويل أي دولة تعتمد هذا النموذج الاقتصادي الى سوق من المصالح، التي يتقاسمها أهل السلطة، فيُصبح القرار الاقتصادي المحلي رهن هذه المؤسسات الخارجية والتي تصبح بالنتيجة تمتلك سلطة تعتدي عملياً على السيادة الوطنية. هكذا يُصبح الموكلون بإدارة الشأن العام، هم أنفسهم تجار القطاع الخاص. ألا ينطبق ذلك على الحالة اللبنانية؟
تبنَّت حكومات ما بعد الطائف سياساتٍ اقتصادية حوَّلت موارد البلاد بعد الحرب الأهلية الى خراب اقتصادي. تحت عناوين إصلاحية اتبعت الطبقة الحاكمة سياسات مالية واقتصادية تبنت عقلية الاقتصاد الحر. ساهمت الجوقة المتناغمة من أهل الاقتصاد والسياسة في ترسيخ نموذج الاقتصاد الريعي القائم على التدفقات المالية من الخارج، وتكديس الإيداعات من الداخل. عادة ما تُستثمر هذه الإيداعات في مشاريع إنمائية وتنموية داعمة للصناعة والزراعة كفيلة بتحويل الاقتصاد الى إنتاجي. لم يحصل ذلك بل بقي القطاع المصرفي يُمارس دور الشبكة التي تحفظ وتُدير أموال أصحاب المصالح.
على مرِّ تاريخه يتغنى لبنان بقطاعه المصرفي والسياحي. تكفي هذه الحقيقة للتعبير عن حجم التبعية في العقلية السائدة لأهل الحكم في لبنان. الإيداعات الموجودة كانت تكفي ومنذ زمنٍ طويل لتحويل لبنان لدولة قوية تكون المصارف والسياحة فيها لخدمة مواطنيه وليس لخدمة السيُاح والأجانب. تحت شعارات وقيم برَّاقة كالانفتاح والعولمة والسوق الحرة ووعود كاذبة من تحقيق التوازن والرفاهية الاجتماعية، حوَّلت الطبقة السياسية البلاد الى شركة متعددة الطوائف مرهونة بمصالحها الاقتصادية للخارج، فيما تعيش المصارف حالياً أزمة تورطها في إقراض القطاعين العام والخاص في لبنان (قروض التجزئة والدين العام)، دون وجود قدرة لهذه القطاعات على سد ديونها!
اليوم يعيش العالم مخاض التحول في النظامين السياسي والاقتصادي. وبالتالي فإن نتائج ما يجري حالياً، ستُحدد مسارات المنطقة والشعوب للسنوات المقبلة. ولأن عمر النموذج الاقتصادي الحر وما يرتبط بهه من أنظمة سياسية شارف على الانتهاء، فإن صيغ الحكم المرتبطة به انتهت. فهل بات واضحاً ما يجري في لبنان؟ فيما يبقى الأهم، غياب المقاربة الحقيقية واللازمة للأزمة، وما يعنيه ذلك من صعوبة المعالجة!
(*) متخصص في نظم السياسات والحوكمة
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024