معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

التظاهرات في لبنان بين العفوية والتسييس: المحاكاة والتماهي  4
14/11/2019

التظاهرات في لبنان بين العفوية والتسييس: المحاكاة والتماهي 4

محمد محمود مرتضى
في هذه الورقة المكونة من اجزاء عدة سنحاول تجميع قدر مقبول ومعقول من الاشارات والعلامات التي تثبت أن ما يجري من حراك في الشارع اللبناني قد تجاوز حدود "العفوية"، ليدرج تحت عنوان: التوجيه والتحكم بالحراك. على أن كلامنا هذا لا يعني أن كل من نزل أو ينزل الى الساحات يعمل وفق أجندة أجنبية (أمريكية أو سعودية أو اماراتية)، وانما نقصد أن ثمة جهات خلف الستار تحرك الجموع بطريقة مباشرة للبعض، وغير مباشرة لآخرين، فيما المخلصون من المتظاهرين باتوا قلة خرجوا من دائرة القدرة على التأثير.

غالبا ما يميل الإنسان إلى تصديق ما يكون مصحوباً بمثال عملي أو تجربة شخصيّة، فهو يكتسب سلوكيات معيّنة بطريقة أسرع من خلال محاكاته للآخرين، خاصة لو كان هؤلاء من ذوي التأثير أو الشهرة. والمحاكاة في الإعلام تأتي على أنماط مختلفة: فقد يكون هدفها استخدام المشاهير في الترويج لسلوك أو اختيار أو موقف معين، حيث تظهر شخصية شهيرة تمارس ذلك السلوك المستهدف بالترويج، من أجل دفع الناس لمحاكاته.

في بعض الحالات يتم توظيف هذا المفهوم في الدعاية السياسيّة بصور متعدّدة. وعادة ما تكون هذه المشاهد مبرمجة من أجل تقديم نموذج عملي يدفع الشرائح المماثلة إلى محاكاته.
تلعب المواد الإعلاميّة  دوراً كبيراً في تمرير قدر كبير من الأفكار والتصوّرات والأنماط السلوكيّة عن طريق المحاكاة، كونها تقدّم للناس نماذج "يحتذون" بها في حياتهم اليوميّة ومشكلاتهم التي يواجهونها. هذا الركام الهائل يتحوّل إلى "مخزون هائل" يتم استدعاء مفرداته عند مواجهة مواقف أو مشكلات مشابهة مع استنساخ أنماط التصرّف التي مارسها الممثلون في سياقات إيجابيّة.

وقد يأخذ الأمر كثيرًا من الوقت من أجل هدم فكرة  أو حتى تفنيدها، والأمر الأسهل دائمًا هو التركيز على الأشخاص عبر مهاجمة ذواتهم ومصداقيتهم وطباعهم وذكائهم أو حتى مظاهرهم وأشكالهم، هذا النمط من "القصف" المتواصل للعقول لن يترك أية فرصة من أجل مناقشة الأفكار أو البرامج أو الإنجازات؛ حيث تُمحى هوية الأفكار بالتبعية عبر تشويه صورة أولئك الأشخاص الذين يعبرون عنها.

تلعب المحاكاة الدور الابرز في "الثورات"، ولذلك يتم حشد شخصيات مشهورة ( ممثلين ومطربين وغير ذلك)، ويلعب هؤلاء دور "الشخصية" التي تنبغي محاكاتها وتقليدها، فضلا عن الدور في التحشيد وجذب الجمهور الى الساحات.

ويعود السبب حول أهمية المحاكاة  أثناء التظاهرات الى أنه في الحشود لا مكان للتفكير الفردي. فالحشد غالبا ما يخضع لتلك المحاكاة، والمحركون الخلفيون انما يتحكمون بالجمهور من خلالها.

ويمكن ملاحظة العملية "المحاكاتية" في تدحرج السلوك الجمعي أثناء التظاهرات والاعتصامات، بل وحتى في الأعمال "الفوضوية المبرمجة". يبدأ أحدهم بالغناء فيغني الاخر فتغني الجموع، يسب احدهم فيسب آخر معه فتسب الجموع، وتنتقل العدوى الى جموع اخرى، وكذلك يحصل في قطع الطرقات، والتصريحات المبرمجة...الخ. ويلعب الاعلام دوراً كبيرا في هذه المحاكاة، اما عبر نقل الصورة من حشد الى اخر من خلال شاشات عملاقة، او من خلال دور ميداني للمراسل الصحفي، واما عبر وسائل التواصل الحديثة.

وبالنتيجة فان المحاكاة في التظاهرات تمثل نوعاً من الهندسة للسلوك الجمعي يترك أثراً على التركيبة النفسية الخاصة بالفرد.  

ورغم ان ما يجري في التظاهرات وادارة الحشود هو نوع من المحاكاة او التقليد، الا ان ثمة مخاطر كبيرة مستقبلا على التركيبة النفسية للحشود. وترتكز هذه المخاطر في تحول الامور من محاكاة وتقليد الى "تماهٍ" أو "تقمص" بحسب المصطلح الفرويدي. وتكمن مخاطر هذا التقمص في انه يحدث بواسطة تأثر "الأنا" بأنا آخر خاص؛ فيحدث نوع من الانتقال للصفات والمميزات الشخصية من فرد إلى آخر، كنوع من التقليد (المحاكاة) لكن بصفة أقوى من التقليد؛ بحيث يدوم ويرسخ في الشخصية وبه يتبنى الفرد توجهات ومميزات شخصية جديدة.

من هنا، فغالباً ما نجد أن "الثورات الموجهة" تنتج جيلاً غير قادر على الابتكار، وفاقداً لعنصر المبادرة، وهو اقرب للفوضوية منه للتنظيم، لذلك نجد أن "المحاكاة"، كوسيلة تربوية، تقترن دائما بحثّ "المحاكي" على الابداع لا الوقوع في فخ التقليد؛ وكلما كان "المحاكون الجمعيون" أكثر تقليدا كانوا أكثر تبعية، وأكثر خضوعاً لسطوة المحرك والموجه.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات